النوافذ
بقلم: أحمد ع. الحضري
(1)
قد تُفتَح على نهرٍ، أو صحراءٍ، أو حديقةٍ واسعةٍ، أو بناياتٍ شاهقةٍ، أو حارةٍ ضيقةٍ، أو حتى على منورٍ مختنق يدخل النور منه بالكاد. قد نطلُّ عليها بدلًا من أن نُطِلَّ منها، إن كانت مزخرفةً بالنقوشِ والرسوماتِ كما في الأديرة أو القصور القديمة. مستطيلة، أو مربعة، أو دائرية … ربما توجدُ منها أشكالٌ لم أَرَهَا ولا أعرفها؛ لعلَّ بعضها مثلًا على شكل مثلث، أو متوزاي أضلاع، أو أي أشكال أخرى غريبة. قد تُغلَق بمصراعين خشبيين، وقد تكون مصنوعة من الزجاج المعتم، أو الشفَّاف، أو المُلوَّن، قد تُغطِّيها الستائر، أو قد تخلو من كل ذلك لتعود كأسلافها مجرد فتحة في جدار. قد نفتحها للضوء، ثم نغلقها في وجه الغبار والريح. نغلقها، نفتحها، نغلقها، نفتحها، نقفزُ منها لنسقط، أو لنطير إن كُنَّا داخل قصة من القصص الخيالية، قد يتسلقُ إليها «روميو» في إحدى المسرحيات ليكلم حبيبته «جولييت»؛ تمهيدًا لموتهما الشاعري المرتقب.
نافذة كبيرة موجودة بمتحف محمد محمود خليل وحرمه من الزجاج الملون المعشق بالرصاص، موقعه باسم الفنان الفرنسى: "LUCIEN METTE" PARIS 1907 |
النافذة هي فرجة مفتوحة بين عالمين: الداخل، والخارج. هي في العادةِ وسيطٌ للرؤية لا للتنقُّل، لا تُصَمَّمُ النافذةُ لنخرجَ من … أو لندخلَ إلى … بل لنشاهد ونتأمل. يُقالُ: «العينُ نافذةُ الروح.» والمعنى هنا استعاريٌّ، نتخيَّلُ فيه حائطًا ما يَحُولُ بيننا وبين رؤية أرواح الآخرين، وفي هذا الحائطِ نافذتان صغيرتان، يمكننا أحيانًا أن نتلصَّص من خلالهما على لمحاتٍ من مخبوء الروح.
في إيطاليا في عصر النهضة كان هناك فنَّانٌ إيطالي اسمه «ليون باتيستا ألبرتي» Leon Battista Alberti (١٤٠٤–١٤٧٢). كان ألبرتي ككثيرٍ من فناني عصر النهضة متعدد المواهب: رسَّامًا، ومعماريًّا، وعالمَ رياضيات، وشاعرًا، وموسيقارًا … لكن الإسهام الذي يهمنا الآن هو تطويره لطريقة مختلفة للنظر للوحة؛ ربما كان في هذا متأثرًا بخبراته كمعماري، وربما سعى لتطوير أفكار قليلين سبقوه في هذه المنطقة. لكن المهم أن ألبرتي نظر إلى اللوحة باعتبارها نافذة. والاستعارة هنا ليست مجرد زخرفة جمالية، يصوغها أحدهم فقط ليتذوقها أو ليُعجَب بوقعها في أذنيه؛ الاستعارة هنا في الواقع تؤسِّس لرؤية مختلفة لفن الرسم ستظل مؤثرة لفترة طويلة، وستؤسِّس لمفهوم سيظل مهمًّا للغاية حتى عصرنا هذا، هو مفهوم «المنظور» perspective. النظر لِلَّوْحَةِ كنافذة يستدعي مُشاهِدًا ومَشهدًا، والهدف الذي وضعه ألبرتي لنفسه هو أن يوزِّع عناصر اللوحة بدقة بحيث تكون قادرة على تمثيل المشهد الذي كان سيراه مشاهِدٌ يقف في نقطةٍ ما خلف نافذةٍ ما ليرى المنظرَ المرسوم؛ بمعنى أن يوزِّع الأجسام والأشكال على اللوحة ويُغَيِّر أحجامها وألوانها لتعكس الطريقة التي كان سيراها هذا المُشاهِد في وقفته المفترَضة خلف نافذة حقيقية، لا كما تظهر بالضرورة في الواقع. ومن ثَمَّ تتقارب الخطوط المتوازية مثلًا كلما ابتعدت عن المشاهد حتى تتلاقى في خلفية اللوحة. كتب ألبرتي رسالةً مهمةً وضع فيها قواعد وأفكارًا يُعبِّر فيها عن رؤيته الخاصَّة بفن الرسم، قام آخرون بتطويرها فيما بَعْدُ. وحتى الآن يمكنك أن تتحدث عن نافذة ألبرتي كنقطة مهمة في تاريخ الفن.
(3)
في عام ١٩٨٥ وقت إطلاق أول نسخة على الإطلاق من نظام التشغيل الشهير «ويندوز» Windows (نوافذ)، لم يكن وقتها نظامَ تشغيلٍ مستقلًّا متكاملًا، ولم تكن الشركة تنوي تسميته بهذا الاسم الذي نعرفه جميعًا به، بل كانت تنوي تسميته «مدير الواجهة» Interface Manager؛ وهو اسم جافٌّ أظن أنَّ النظام ما كان لينجح به. مدير التسويق في الشركة وقتها واسمه «رولاند هانسون» Rowland Hanson أقنع المسئولين بأن إطلاق تسمية «النوافذ» عليه ستكون أكثر قبولًا من المستهلكين. أظن أن هانسون في هذه اللحظة التقط بهذه التسمية الاستعارية جزءًا جوهريًّا من طبيعة نظام التشغيل الوليد، وربما يكون بهذه التسمية قد ساهم في تكوين الرؤية المستقبلية للنظام، على الأقل في جانب من جوانبه؛ تدخل على النظام فتجد سطح المكتب Desktop، وطرقًا مختصرة shortcuts، وأيقونات Icons … وكلها تسميات استعارية، لكن مع انتشار الكلمات في البيئة الجديدة، اختفت طبيعتها الاستعارية مع الوقت، فتجدنا نستخدمها الآن بشكلٍ يوميٍّ معتادٍ دون أن نلتفت للجانب الاستعاري فيها.
(4)
هل هو مقال عن النوافذ؟ ربما في جزءٍ منه هو كذلك. أحببتُ الحديث عن جوانب مختلفة لشيءٍ واحدٍ معتادٍ نراه كل يوم، انتقلتُ من معانٍ حقيقية إلى معانٍ استعارية؛ لأبيِّن كيف كانت الاستعارات في هذا الحديث المحدود عن شيء واحد مرتبطةً بالطريقة التي نفكِّر بها، ومؤثرةً في إنتاج أفكار أو تطويرها. الاستعارة ليست مجرد زخرفة كلامية، لكنها وسيلة لفهم العالم والتعامل معه وتغييره أحيانًا. الاستعارات موجودة في كلِّ أشكال الخطاب، حتى في الخطابات التي تحاول بقدر الإمكان التزام الصياغة المحايدة الدقيقة. الاستعارة موجودة في كل اللغات، في كل الثقافات، في كل السياقات، وهي تتدرج من استعارات تقليدية معتادة لا نكادُ نحسُّ باستعاريتها ونحن ننطقها، إلى استعارات مبتكرة نحتاجُ للوقوف أمامها لوهلة كي نفهمَها. الاستعارات تشكِّل وتؤثِّر في نظرتنا للعالم؛ وهي جزءٌ أصيلٌ ومهمٌّ يجبُ الالتفات له لفَهم آلية نمو اللغة وتطورها. ما هي الاستعارة؟ الاستعارة هي ببساطة الحديث عن شيء — أو التفكير فيه — بمفردات شيء آخر.١ فكِّروا في الأمر قليلًا، ستجدون أننا نستطيع أن نتحدَّث عن الاستعارات نفسها باعتبارها نوافذ سحرية تَصِل بين مجالات أو مفاهيم مختلفة؛ كي يُلقيَ أحدُها الضوءَ على الآخر.
____________
1- في هذا السياق أودُّ أن أشير إلى كتابٍ ممتع؛ عنوانه هو: «الاستعارة في الخطاب»، صدَرَ في ترجمته العربية في عام ٢٠١٣ عن المركز القومي للترجمة (ترجمة: عماد عبد اللطيف، وخالد توفيق)، تتحدث «إيلينا سيمينو» فيه عن الاستعارة، ونظرياتها، ووظائفها، واستخداماتها في الخطابات المختلفة. استفدتُ منه في تعريف الاستعارة الوارد هنا، وفي بعض محتوى المقطع الرابع، وكان بشكلٍ عامٍّ ملهمًا لي في كتابة المقال.
2- سبق نشر هذا المقال في موقع هنداوي في 11 يناير 2015، وفي كتاب "الفأر في المتاهة" عام 2016.
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء