الأفكار والتاريخ (مقتطف)





جون هرمان راندال
ترجمة: جورج طعمة

وهكذا تجد الأفراد جيلا بعد جيل يكيفون أبنية العهود السابقة لتطابق حاجاتهم ورغائبهم، فتارة يحتفظون بها كاملة دون أي تحوير مكتفين بمجرد تغيير استعمالها. وتارة يضيفون أحجارًا جديدة وأشكالا جديدة. وأحيانًا أخرى يهدمونها ويعيدون بناءها بالمواد القديمة. ومع ذلك تستمر الحياة لتكرر في حيوية جديدة، ومن غير اكتراث لما كان من قبل، دورة الولادة والأمل والفشل والموت، في ظل إمبراطور أو أمير، أو بابا،، أو ملك أو دكتاتور. حقًا إن روما هي المدينة الخالدة: خالدة بقصورها وأبنيتها القديمة، خالدة بأشواقها وآمالها الجديدة، وكأنها جديرة بأن تكون رمزًا للإنسانية التي اعتبرتها لمدة طويلة مركزها. 

وما تاريخ الإنسانية سوى تاريخ جهود وأبنية تتناولها يد الإنسان بالتعديل المستمر فتتسع لتآلف التيارات الجديدة للحياة. وهو أيضًا قصة جدران قديمة شاخت فعملت فيها معاول التهديم ثم أعيد بناؤها بأشكال جديدة. وقصة البرابرة القساة وما جنته أيديهم المدنسة على الأبنية الأثرية الشامخة من تشويه وتخريب، وقصة الكنائس القديمة التي حافظ عليها المؤمنون بورع وتقى، والقصور التي دمرت من أجل طريق جديد يفتح، والمنازل الشعبية الحقيرة التي هدمت ليأخذ مكانها شارع فسيح، والمجالس النيابية الحديثة تنعقد في أروقة حكام الرينسانس الطغاة. وأخيرًا قصة مجالس أركان الشيوعية تلتئم في مقاصف الأسياد الرومانيين. وإذا كان استمرار الماضي في الحاضر غير ملموس في أي مكان آخر قدر ما هو ملموس في عاصمة البابوات ، فمن الواضح أيضًا أننا لو أخذنا رجالا يعيشون في أصقاع متعددة، ويحترفون مهنًا مختلفة لوجدنا أن المثل العليا التي يؤمن بها مزارع في كاليفورنيا مثلا أو عامل منجم في بانسلفانيا، أو صاحب قطيع الغنم في كندا، أو عضو ناد مثقف في بيونس آيرس، إنما هي كلها شذرات تجمعت من هنا وهناك في رحلة الإنسانية خلال الأجيال الطويلة، وصيغت في قوالب فكرة جديدة لتخدم حاجات أستراليا أو أمريكا. ولو نحن قمنا بجولة فكرية في ثنايا عقل الرجل الحديث لانكشف لنا عن التراكم في الاعتقادات التي استمرت دون تغير خلال عصور التاريخ، ولرأينا أفكارًا التقطت من صحف الصباح وتجمعت كلها ليتشكل منها بناء واحد وإنما على أساس مترجرج ضعيف. ومع ذلك فهذه الأفكار على درجة من القوة بحيث يلجأ إليها الإنسان لتلبية حاجاته وملء فجوات كثيرة في تفكيره. 

[...]

إن استكشاف عقل الجيل الجديد، وإيضاح الخطوط العديدة التي تدخل في تركيبه المعقد، وإرجاعها إلى فجر ظهورها حين أخذ التاريخ ينسجها بعضها مع البعض، عمل فيه نشوة تفوق نشوة القيام بنزهة في روما. ولكن فيه أيضًا ما هو أكثر من النشوة. هو عمل في غاية الأهمية بالنسبة لمن يريد أن يتفهم الحياة التي تحيط به، وأن يدرك قواها العقلية المحركة، ويتبين اتجاهاتها وتياراتها، وربما أيضًا يساهم في دفعها. الأفكار هي أكثر عناصر الحضارة الإنسانية بقاء وما نجده منها في العقل الحديث له جذوره في الماضي السحيق، ثم إن الإنسان يتصل بأجداده الأقدمين عن طريق العقل، أكثر مما يتصل بهم عن طريق الروابط الطبيعية أو العرقية. ولشد ما ينطبق هذا بصورة خاصة على أمريكا. فهي على الرغم من تاريخها الحديث جزء من الحضارة الأوروبية قدر ما هي روما ذاتها. لذلك إذا أردنا أن نفهم العلم والدين والفن والأخلاق الحديثة ونقدرها ونحكم عليها، كان من اللازم الضروري أن نفهم مآثر البشرية الكبيرة في الماضي وما خلقته وما خلفته من جو روحي يستنشق عبيره الإنسان الحديث اليوم. 

غير أن الحاجة الرئيسية التي تدفعنا إلى تحليل اعتقادات الناس وأصولها تعود إلى حقيقة واقعة لا تعطى قسطها من الأهمية. فالأفكار ليست كآلهة الأولمب أبدية الفتوة لا تتغير ولكنها ككل شيء إنساني تولد وتكبر وتنضج وقد تموت. فهي حية إذن وكل ما هو حي لا بد أن تكون له بيئة يعيش فيها ويألف شروطها. نقول ذلك لميل شائع بين الناس لأن يعتبروا مجموعة عقائدهم هم كالأطواد التي يرفعون بصرهم إليها ثابتة لا تتغير. فكل ابتعاد عنها نوع من السخف. أو ينظروا إليها كما ينظرون إلى النقد الذهبي الخالص المجرب الذي لا يجد صعوبة في التداول في أي زمان أو مكان. فكأنما المسيحية والعلم والديموقراطية والملكية الخاصة قد وجدت في الماضي مثلما هي موجودة الآن وكأن وجودها سيستمر إلى الأبد. وحين تجد الناس على استعداد للإقرار بوقوع تغيرات ثورية في الأمور المادية المحسوسة تجد القليل منهم يدركون حدوث التغيرات ذاتها في الأمور الفكرية المجردة. وما سبب صعوبة هذا التصور بأن الناس كان لهم من المعتقدات فيما مضى خلاف ما لهم اليوم، وإنما يكاد يكون مستحيلا أن نصدق أنهم حقًا اعتقدوا جازمين مخلصين بتلك السفسطات الظاهرة على ذات الشكل وبذات البداهة التي يؤمن الناس بها اليوم بأقدس اعتقاداتهم. ثم إن الرجوع إلى تاريخ هذه الاعتقادات ونموها يسهل علينا التحسس بالعلاقة القائمة بين الأفكار ومكان ظهورها وزمنه، وبصدقها إزاء المحيط الذي نشأت فيه، وبفائدتها طالما أن ذلك المحيط ما زال يمدها بعناصر الحياة والبقاء. 

وأخيرًا إذا كانت عقول الأفراد تشبه الفسيفساء في تركيبها والطرس التي تراكم عليه اعتقاد فوق اعتقاد، فإنه لمن الأهمية القصوى أن نفهم تاريخ تلك الاعتقادات وعلة وجودها وفي ما إذا ما كان يجب الأخذ بها أو إهمالها. وعلى هذا الصعيد من البحث تثار أسئلة كثيرة: ما هي موجات الفكر الكبيرة التي أدت إلى تراكم تلك الاعتقادات بعضها فوق بعض وما هو الشكل الذي اتخذته؟ ماذا كانت تعني بالنسبة للشعوب التي دانت بها حين بلغت حدها الأعلى من الانتشار؟ وهل من قيمة لها خلفتها وراءها؟ وماذا يجب على الناس أن يبحثوا عنه مجددًا لأنفسهم في مهمة بناء الحضارة، تلك المهمة التي لا تنتهي؟ وعندما يتوصل الإنسان إلى فهم ما يقدمه العالم الخارجي له والإحاطة بمصادر الأمل في نفسه فإن من واجبه أيضًا أن يستأنف البحث عن تأثير الماضي في الحاضر وأن يفهمه ويعتبره ملكًا له لكي يصبح سيده.


من مقدمة المؤلف لكتاب:
تكوين العقل الحديث

جون هرمان راندال
ترجمة: جورج طعمة
مراجعة: برهان دجاني

المركز القومي للترجمة، 2012
2ج.
(نشر لأول مرة عام 1926، ثم أعيد نشره بعد تنقيحه عام 1940)

(صدر جزءا الكتاب الأول والثاني في العربية لأول مرة عامي 1957، 1958 على التوالي)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات