يستحيل أن تنزل نفس النهر مرتين (مقاطع من كتاب: "التطور الخالق")

هنري بيرجسون


هنري برجسون

إني ألاحظ أولا أنني أنتقل من حال إلى حال، فأنا أشعر بالحر أو أحس البرد، وقد أكون مبتهجًا أو حزينًا، وقد أعمل أو لا أقوم بعمل ما، وألاحظ ما يحيط بي أو أفكر في شيء آخر، فالإحساسات والعواطف والإرادات والتصورات هي التغيرات التي تتقاسم وجودي، والتي تلونه كل منها بلون خاص واحدة بعد أخرى. فأنا إذن في تغير مستمر، بل ليس هذا القول كافيًا فإن التغير أكثر أصالة مما عسى يظن المرء في الوهلة الأولى. 


وحقيقة أني أتحدث عن حالة من حالاتي، كما لو كانت حالة واحدة، نعم إنني أتغير، غير أن التغير لا يعدو أن يكون انتقالا من حالة إلى تلك التي تليها؛ ويحلو لي، فيما يتعلق بكل حالة على حدة، أن أعتقد أنها تظل على ما هي عليه طيلة الوقت التي تحدث فيه. ومع هذا، فإن مجهودًا ضئيلا من الانتباه أبذله ربما كشف لي أنه ما من وجدان، وما من تصور، وما من إرادة إلا وتتغير في كل لحظة، ولو أن حالة نفسية ما توقفت عن التغير لتوقف زمنها عن الجريان. فلنأخذ أشد الحالات الداخلية ثباتًا، وهي الإدراك البصري لموضوع خارجي ثابت. فمهما ظل هذا الموضوع هو بعينه، ومهما لاحظته من جانب بعينه، ومن نفس الزاوية وفي نفس الضوء؛ فإن رؤيتي له تختلف، مع ذلك، عن تلك التي قمت بها منذ هنيهة؛ ولو لم يكن ذلك إلا لأنها قد تقدم بها الزمن لحظة واحدة. فذاكرتي ماثلة، وهي التي تدفع بشيء من الماضي إلى هذا الحاضر. وكلما تقدمت حالتي النفسية في طريق الزمن تضخمت دائمًا بهذه الديمومة التي تحملها؛ ويمكن القول على نحو ما بأنها تتضخم على غرار ما تفعل كرة من الجليد؛ فمن الأولى أن يكون الأمر هكذا في أشد الحالات الداخلية عمقًا: من إحساسات، ووجدانات، ورغبات وهلم جرا، وهي التي لا تشبه الإدراك الحسي البصري الذي يعبر عن موضوع خارجي لا يتغير. غير أنه من المريح ألا نوجه الانتباه إلى هذا التغير المستمر، وألا نلاحظه إلا عندما يصبح من الضخامة بحيث يحدد موقفًا جديدًا، وللانتباه اتجاهًا جديدًا، ففي هذه اللحظة بالذات يرى المرء أنه انتقل من حالة إلى حالة، والحق أننا نتغير دون انقطاع، وأن الحالة نفسها ليست إلا تغيرًا.

ومعنى ذلك أنه ليس ثمة فارق جوهري بين الانتقال من حالة إلى أخرى، وبين البقاء في حالة بعينها. فإذا كانت الحالة التي "تظل هي بعينها" أكثر تغييرًا مما يظن، فإن الانتقال من حالة لأخرى يكون، على عكس ذلك، أشدُ شبهًا مما يظن بالحالة التي تمتد في البقاء. فالانتقال مستمر. غير أنه من المحقق أننا لما كنا نغض الطرف عن التغير المستمر لك حالة نفسية فإننا نضطر في الوقت الذي يصبح فيه التغيير من الشدة بحيث يفرض نفسه على انتباهنا؛ إلى الكلام كما لو كانت هناك حالة جديدة انضمت إلى الحالة السابقة. فنفرض أن هذه الحالة الأخيرة تظل ثابتة بدورها وهكذا دواليك إلى مالا نهاية؛ فالتقطع الظاهري للحياة النفسية يرجع إذن إلى أننا نثبت انتباهنا إليها في سلسلة من الأفعال المتقطعة؛ فمتى تتبعنا الخط المتقطع لأفعالنا الانتباهية اعتقدنا أننا نرى درجات سلم حيث لا يوجد إلا انحدارٌ طفيف. 

*** *** ***

هذا إلى أنه ليس هناك نسيج أكثر مقاومة أو جوهرية من الزمن، وذلك لأن ديمومتنا ليست لحظة تحل مكان لحظة أخرى، وإلا لما كان هناك سوى الحاضر، ولما كان هناك امتداد للماضي في الحاضر، ولا تطور ولا ديمومة محددة بالذات. إن الديمومة هي التقدم المستمر للماضي الذي ينخر في المستقبل ويتضخم كلما تقدم. ولما كان الماضي ينمو دون انقطاع، وعلى نحو غير محدود، فإنه يحتفظ ببقائه. وليست الذاكرة كما حاولنا البرهنة، قوة لتصنيف الذكريات في درج أو لقيدها في سجل؛ فليس هناك سجل ولا درج؛ بل لا وجود هنا لقوة في حقيقة الأمر؛ ذلك لأن القوة إنما تؤدي عملها بصورة متقطعة عندما تريد، أو عندما تستطيع؛ في حين أن تراكم الماضي على الحاضر يستمر دون توقف. وفي الحق أن الماضي يحتفظ بالبقاء من تلقاء ذاته، وبطريقة آلية. ولا ريب في أن الماضي بأسرة يتبعنا في كل لحظة؛ فكل ما شعرنا به وفكرنا فيه، وأردناه منذ طفولتنا الأولى ماثلٌ أمامنا، وباسطٌ ذراعيه نحو الحاضر الذي سيلحق به، وضاغطٌ على باب الشعور الذي يرغب لو تركه في الخارج. ومن المحقق أن الجهاز الدماغي قد صنع على نحو ما بحيث يطرد جميع الذكريات تقريبًا إلى اللاشعور، حتى لا يسمح بالدخول إلى الشعور إلا لتلك الذكريات التي من طبيعتها أن تلقي ضوءًا على الموقف الراهن، وأن تساعد على العمل الذي في طريق الإعداد، وأن تنتهي بإنتاج عمل مجدٍ. وكل ما هنالك أن بعض الذكريات الممتازة تستطيع المرور، دون حق، خلال الباب المنفرج قليلا. وهذه الذكريات، والتي هي رسل اللاشعور، تنذرنا بوجود ذلك الماضي الذي نجره خلفنا دون أن ندري؛ بل لو لم تكن لدينا فكرة واضحة عن هذا الماضي فإننا نشعر مع ذلك شعورًا غامضًا بأنه يظل ماثلا أمامنا. وفي الواقع ما نحن؟ وما هي طباعنا إن لم نكن ذلك المزيج المركز للتاريخ الذي عشناه منذ ولادتنا؛ بل قبل ولادتنا، ما دمنا نجيء إلى الحياة مع استعدادتنا الوراثية. ولا ريب في أن تفكيرنا لا يعمل إلا في نطاق جزء ضئيل من ماضينا، ولكننا نرغب، ونريد ونعمل معتمدين على ماضينا بأسره، بما ينطوي عليه من الاتجاه الفطري لنفوسنا. وإذن يتجلى لنا ماضينا كله باندفاعه وعلى هيئة بعض الميول، على الرغم من أن جزءًا ضئيلا منه فقط هو الذي يصبح تصورًا. 

ويترتب على استمرار الماضي في البقاء أنه يستحيل على شعور ما أن يمر بحالة بعينها مرتين؛ فمهما كانت الظروف هي بعينها فإنها لا تؤثر في نفس الشخص (الذي أثرت فيه من قبل)؛ وذلك لأنها تحيط به في لحظة جديدة من تاريخه. إن شخصيتنا التي يستمر بناؤها في كل لحظة عن طريق تكديس التجارب لا تكف عن التغير. ولما كانت تتغير فإنها تحول دون تكرار حالة نفسية سابقة تظل هي هي من حيث العمق، وإن بدت مماثلة لنفسها من حيث السطح. وهذا هو السبب في أن ديمومتنا لا يمكن أن تعود القهقرى. وليس في استطاعتنا أن نحيا جزءًا منها مرة ثانية؛ إذ ينبغي أن نبدأ بمحو جميع ذكرياتنا التي جاءت بعد هذا لاجزء. وأقصى ما هنالك أننا قد نستطيع محو هذه الذكريات من عقلنا ولكنا لا نستطيع محوها من إرادتنا. 

مقاطع من كتاب: 
التطور الخالق
تأليف هنري برجسون
ترجمة: دكتور محمود محمد قاسم
مراجعة: دكتور نجيب بلدي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات