مقاطع عن فيثاغورث




بقلم: جون ستروميير، وبيتر ويستبروك
ترجمة: شوقي جلال


لقد عاش [فيثاغورث] في لحظة مفصلية ضمن مسيرة هذا التراث، عند النقطة التي اجتاز فيها هذا التراث العتبة الفاصلة بين الميثولوجيا أو الإطار الثقافي الشفهي المعتمد على الأسطورة وبين التاريخ، والعتبة الفاصلة بين عصر الشفاهة وعصر الكتابة. وهكذا نراه يجمع بين التاريخ وبين الأسطورة، أو لنقل ما قاله إي. إم. كورنفورد إنه مثل معاصره بوذا "أحد أولئك القديسين الذين عرف عنهم التاريخ أقل القليل لأن حياتهم استحالت إلى أسطورة.”

*** *** ***

فيثاغورث هو أول من استخدم كلمة فلسفة – حب الحكمة. اعتاد أن يعلم تلامذته أن هدف الفلسفة هو تحرير العقل من تلك القيود التي فرضها على نفسه، إذ بدون هذه الحرية لا يستطيع المرء إبراء نفسه من إمكانية خطأ الحواس …
*** *** *** 
 
واعتادت المدرسة الفيثاغورثية نقل المعرفة بلغة رمزية عن طريق استخدام عبارات وألغاز سرية تشتمل على عدد قليل من الكلمات المحملة بالعديد من مستويات التأويل، ويتعين على طلاب المدرسة اكتشاف المعنى المتضمن في هذه الدروس المؤلفة من ألغاز، ويتوصل التلاميذ إلى المعنى أحيانًا عن طريق التأمل لاكتشاف معانيها الكثيرة المحتملة، وعرف فيثاغورث هذه الطريقة في التعليم في مصر، ثم اتبعها في مدارسه، وعند استلهام الوحي في المعابد مثل معبد دلفي، وضمن هذا المنهج في العمل أن يكون التلاميذ وحدهم هم من لديهم الاستعداد الكافي لتلقي التعاليم، واستطاع غرس وتثبيت دروسه في أذهان التلاميذ عن طريق تدريبات ذهنية جادة ومتقنة لتدريب العقل على استخلاص معاني الدروس. وآمن ثالثًا بضرورة توصيل الأفكار في صياغات محكمة والتعبير عنها في عبارات موجزة أو أحجيات واقتدى في هذا بمثال الطبيعة التي تختزل ضخامة وتعقد الكائنات الحية على هيئة بذرة ليضعها، ويغرسها بين أيدي الرجال والنساء. ونذكر هنا أمثلة من بعض المقولات الرمزية التي اعتاد أن يلقيها مرارًا وتكرارًا على مسامع حوارييه، مثل: “البداية نصف الطريق"، أو "اخلع نعليك قبل الصلاة والتضحية.”، أو " تجنب الطريق الطويل العام، والزم الدرب المطروق أقل من سواه". وأكثر من هذا أنه ابتدع كلمات وصورًا تمثل مجالات كاملة من المعرفة، نجد من بينها كلمة كوزموس التي تعني نواميس التناغم والنظام في الكون والسماء. وابتدع أيضًا المثلث العشري أو ذا العناصر العشرة Tetraktys الذي يرمز إلى كل أبعاد الخلق المرئية أو الخفية أو الخلق المشاهد والغيبي.

وألزم فيثاغورث تلامذته بعدم تسجيل تعاليمه كتابةً، مؤكدًا أن موضوعات بحثه ودراسته إذا ما أتيحت لغير المريدين أو بدون مساعدة من معلمين مدربين ستكون غير قيمة، بل ربما تضر من يطلع عليها عن غير علم بأسرارها، ورأى أن الكشف عنها في صيغتها الفيثاغورثية المعتادة مدعاة لأقاويل تصفها بأنها هراء أو حمق، وإذا حدث وعمد أحد إلى تبديلها أو تغييرها لكي تكون يسيرة على الفهم، فإنها ستفقد معناها أو تغدو أقوالا مبتذلة، وإذا عرضها أحد للبيع، فإن قيمتها سوف تنحصر في المساومة على ما يجنيه من ربح.

*** *** ***

الرياضيات عند فيثاغورث هي الجسر بين عالم الشهادة وعالم الغيب، وحرص على دراسة الرياضيات ليس باعتبارها فقط سبيلا للفهم والتأثير في الطبيعة للاستفادة منها، بل وأيضًا وسيلة لحفز العقل على التوجه بعيدًا عن العالم المادي، إذ كان يؤمن أن العالم المادي زائل ودار عبور وغير واقعي. ويؤدي نهجه بالعقل إلى التأمل في الموجودات الخالدة الحقة التي لا تتغير أبدًا، وعلم فيثاغورث تلامذته أنهم إذ يركزون اهتمامهم على عناصر الرياضيات يمكنهم ضمان سكينة وتطهير العقل، ويفضي بهم هذا بفضل الرياضيات والمجاهدات إلى معايشة السعادة الحقة.

وآمن أن الأعداد تمثل الجوهر الأخير لكل الموجودات المادي وغير المادية، ورأى أن الأعداد لها جانبان متمايزان ومتكاملان. إذ لها من ناحية وجودها المكاني، أي الوجود المادي. وتمثل من ناحية أخرى المبادئ الأولية الأساسية للصياغة النسقية وهي مبادئ تجريدية محضة. مثال ذلك الموناد monad (الوحدة الأولى)، والتي فهمها الفيثاغوريين على أنها الرقم واحد الذي يتميز بخصائص يمكن تعديدها ومعالجتها في الطبيعة. وهي أيضًا الفكرة التي تجسد الوحدة الأولى الأصلية ومصدر كل الخلق. وتحدت هذه التعاليم الثورية نظرية المفكرين الإغريق السابقين التي تقضي بإمكانية اختزال العالم في نهاية الأمر إلى توليفة من العناصر: النار، والتراب، والهواء، والماء، وواقع الحال أن فيثاغورث علم تلامذته أن هذه العناصر ذاتها مثلها مثل أفكار العدل والروح والعقل هي أعداد. واستطاع بفضل فهمه لأعمالها تطوير المهارة في التنبؤ بالمستقبل وتحقيق الكمال في التناغم مع البشر والأرباب.

*** *** ***

الرياضيات عند الفيثاغوريين لها أربعة جوانب تتعلق بجميع الظواهر وفق سلوكها الخاص المميز. وأوضح فيثاغورس أن "قواعد الحكمة أربعة: الحساب، والموسيقى، والهندسة، والفلك- وترتيبها 4، 3، 2، 1” والحساب هو دراسة الكم، والموسيقى فهم العلاقات بين الكميات، والهندسة تتعامل مع الأشكال الساكنة ثلاثية الأبعاد، ويمثل الفلك آخر هذه المباحث الأربعة وهو معني بالأجرام حال حركتها وتغيرها.

وكان فيثاغورس هو أول من أطلق على الكون اسم الكوزموس، وهذه الكلمة تشير جذورها اليونانية إلى كل من الناموس أي النظام الخاضع لقوانين، كما تشير إلى الزينة، واعتقد أن تدقيق النظر في السماوات يكشف عن جمال رائع متمثل في تنظيم مواقع النجوم ونظامها الأصيل في دورانها وحركاتها المدارية، ويرى أن السماوات تجسد الأعداد في نقائها المحض، والأرقام في كمالها الخالص والحركات والعلاقات النقية الموجودة بين جواهر الأشياء، والتي لا يتسنى إدراكها إلا بالعقل والفكر. إن الخلود والأبدية أو عدم التغير هي الجوهر ونبع الحكمة. واعتاد فيثاغورس في الحقيقة أن يعلم تلاميذه التماس المعرفة والخبرة بهذه الأشكال لأن ذلك هو هدف الفلسفة.

مقاطع من كتاب:
التناغم الإلهي: حياة فيثاغورث وتعاليمه
جون ستروميير، وبيتر ويستبروك
ترجمة وتقديم: شوقي جلال
المركز القومي للترجمة؛ 2019

تعليقات

  1. عالم عظيم انتجته مصر

    ردحذف
  2. لقد كانوا حتى في حاضرنا ... و لم نستطع أن نكون من تاريخهم ... لك تحية الإنسانية و همومها

    ردحذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات