التراجيديا

ألفريد فرج

بقلم: ألفريد فرج
(عن كتاب دليل المتفرج الذكي إلى المسرح)


     الصراع هو قوام المسرح كله: الصراع بين قوتين متناقضتين على اتساع المجتمع، أو في داخل النفس الإنسانية الواحدة. أما الصراع في التراجيديا فيتميز بلون خاص متفرد: إنه صراع مستحيل .. ونتيجته مقررة سلفًا.
 
     فالإنسان في مواجهة القدر "كما في التراجيديا الإغريقية" قد تقرر هلاكه حتى قبل أن يخوض المعركة، لأنه يحارب قوة خارقة لا قبل لإنسان بها ...
 
     والإنسان تحت سيطرة طبع متطرف، أو هوس في صميم شخصيته ومن مقوماته "كما في التراجيديا الشكسبيرية" قد تقرر هلاكه من اللحظة الأولى ...
 
     والإنسان المتمرد على قوانين الطبيعة الصارمة، وأحكامها الأزلية "كقانون اطراد الزمن مثلما في تراجيديا أهل الكهف لتوفيق الحكيم" لا فكاك ولا نجاة له من مصيره المشؤوم.
 
     التراجيديا شيء نظيف ومستقيم، ليست تشوبه شائبة الأمل في احتمال الانتصار أو الفكاك من المصير .. لا يتقلب بطلها بين احتمالات النجاة أو الضياع، ولا تؤثر في مصيره صدفة حسنة أو صدفة سيئة، أو نصرة الأصدقاء أو خذلانهم للبطل .. إن الذي يحسم مصير البطل التراجيدي هو قوانين الوجود ونظامه الصارم.

     ونبل التراجيديا يكمن في هذا الموت المحتوم.. يكمن في أن البطل المقضي عليه يقاوم مع ذلك حتى النفس الأخير.. لا بغرض الإفلات الملفق، ولا لغرض نفعي طارئ .. ولكنه يقف بقوة وعناد وصلابة متحديًا أهوال المصير تحقيقًا لذاته الإنسانية، ولطبعة البشري الخالص، وتأكيدًا لموقفه الإنساني العصي على الاستسلام كاشفًا في صراعه المهيب أسرار النفس وأسرار الوجود ..
 
     إن أوديب نكب نكبته وهو يفتش بجسارة عن قاتل الأب بكل ما في هذه القضية من شمول.. وماكبث لقي مصرعه وهو يناضل في استماته لتحقيق أطماعه المستحيله، ميشيلينا "أهل الكهف" سقط في هوة الزمن وهو يناضل في دأب ليجعل من وجوده التاريخي حياة واقعية ..
 
     الموت التراجيدي إذن موت فلسفي .. موت يطرح فو ق منصة المسرح قضية فلسفية أو أخلاقية "أي تتعلق بالطبع وبطبيعته تكوين الشخصية الإنسانية" .. ولكل كاتب تراجيدي فلسفته الخاصة وفكره الخاص.  

     وقد كانت فلسفة التراجيديا الإغريقية تتميز بتصوير الصراع الأزلي بين الإنسان وقوى الطبيعة المجهولة الغاشمة.
 
وكانت فلسفة شكسبير التي تبسطها تراجيدياته هي أن الصراع الأزلي ناشب بين الإنسان وطبعه المتطرف، بين الإنسان وهوس في صميم شخصيته .. يصرعه في النهاية ... فماكبث يصرعه طموحه، وعطيل تصرعه غيرته، وهاملت يصرعه تردده وإمعانه في التأمل . إلخ. لقد نقل شكسبير الصراع التراجيدي من السماء إلى الأرض، ومن وراء الطبيعة إلى مسرح النفس الإنسانية.
 
     وحيث أن الشخصية المتوازنة السوية في الطبع والخلق إنما هي شخصية خيالية افتراضية .. افترضها العلماء لمجرد القياس عليها، ولا وجود لها في الحياة، فقد تحقق بذلك للتراجيديا الشكسبيرية شرط شمولها واتساعها لكل نفس إنسانية وهو شرط يجب أن يتوفر لفكرة الصراع التراجيدي.

     هذه إذن التراجيديا ..
 
     وما أقل ما يمكن أن نحصيه في أدبنا من هذا اللون المسرحي الجليل الشأن .. وما أقل ما تقدر إمكانياتنا الفنية المسرحية على عرض هذا اللون المسرحي، وما أقل ما يقبل عليه الجمهور ..
 
     لعل أعظم كتابنا المسرحيين الذين أنتجوا في مجال التراجيديا هو توفيق الحكيم. فقد دأب هذا العقل النابغ وحده خلال عشرات السنين على التأمل والإنتاج في هذا المجال، رغم كل ما كان يصده عن مواصلة البحث الفني الفلسفي الشاق ..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات