الرواية والزمن

بقلم: ماريو بارجاس يوسا  
ترجمة: بسمة محمد عبد الرحمن 
مقطع منقول عن كتاب "الكاتب وواقعه" الصادر عن المشروع القومي للترجمة بمصر.




ماريو بارغاس يوسا
     الزمن جانب أساسي في الخيال الأدبي، يمنحه هويةً منفصلة وشخصية مختلفة عن الواقع الحقيقي. ولأسباب واضحة فإن الزمن في الرواية لا يكون مثله في الحياة الواقعية. ينطبق ذلك حتى على أكثر الروايات واقعية، الرواية التي تنجح في محاكاة الحياة. الزمن في الرواية له بداية ونهاية لا ينساب أبدًا كما هو الحال في الحياة الواقعية. ولأنك يجب أن تروي في الرواية كيف تتصرف أوتتحرك أو تفكر شخصيات مختلفة تصبح مضطرًا إلى التوقف حتى تفرق بين الشخصيات والأفعال والأحداث. لذا فإنت مجبر على كسر الحركة  التي تميز الزمن في الواقع، وعليه فأنت تقدم في الرواية زمنًا مصطنعًا. هذا الوقت المصطنع يحدث دائمًا في الرواية الحديثة التي يعي مؤلفوها وعيًا ذاتيًا ما يفعلونه في ابتداع البنية الزمنية أكثر بكثير من الروايات الكلاسيكية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حيث لم يهتم الروائيون في الحقيقة بهذه المشاكل بشكل نظري. لم يفكروا في إبداع بنى مختلفة للواقع. ربما كان العديد من الروائيين في الروايات الكلاسيكية مقتنعين بأنهم كانوا يحاكون فقط الواقع عندما يكتبون رواياتهم؛ ليس فقط في الألفاظ التي يستخدمونها بل أيضًا في إبداع حركات الزمن في القصص. 


في الحقيقة عندما تبحث في كيف يتطور الزمن في أية رواية وكيف تنساب القصة ستكتشف أن هناك إبداعًا لبنية زمنية هي في حالات كثيرة صفة مميزة لكل مؤلف ولكل عمل أدبي. وجانبٌ رئيسي من أصالة الروائي السارد هو أسلوبه في إبداع هذه البنى الزمنية في عمله. فقد ابتُدع الزمن في روايات فوكنر على سبيل المثال بعناية عظيمة ومهارة فذة حتى إنه يعمل بنفسه على خلق المناخ وعلى خلق الالتباسات والتلميحات في القصة. فالطريقة التي يتحرك بها الراوي في الزمن والطريقة التي تتحرك بها أحداث الرواية في الأمام والخلف في الزمن أساسية لفهم الرواية. التلاعب بالوقت يحدث في جميع الروايات، في بعضها يصبح ذلك أكثر وضوحًا، وفي العديد من الروايات الأخرى يكون بالكاد مرئيًا. لذا فإنك إذا بحثت عن البنية الزمنية في رواية ما ستكتشف أنها أحد أوجه أصالة الرواية وأيضًا أحد الأوجه التي تختلف به عن كل الروايات. وتحافظ به على مسافة من النموذج، أي الواقع: الواقع الحقيقي.

في "الكابتن بانتوخا والخدمة الخاصة" [رواية ليوسا]، ينبغي أن تفكر في الوقت كشيء مشابه للمكان. الزمن له صفة، تمامًا كالمكان. الزمن شيء موجود له بداية ونهاية وله أيضًا خاصية المادة وطبيعة المادة. وعليه يمكن للراوي أن يحرك الرواية في الزمان بالطريقة نفسها التي يحرك بها القصة في المكان. القصة يمكنها أن تتحرك بحرية من الماضي إلى المستقبل ومن المستقبل إلى الماضي؛ لأن الزمان هناك مثله مثل المكان حيث لا شيء يضيع، لا شيء اختفى. الزمان موجود هناك. الماضي مثله تمامًا مثل المستقبل أو مثل الحاضر، مرحلة يمكنك أن تعود إليها في أي وقت تريد. إذا كان للزمن هذه الصفة المكانية، هذه الصفة الأرضية يمكنك أن تجزئ الزمن، يمكنك أن تقسمه معطيًا إياه بنية كائن بيولوجي، أو كينونة بيولوجية. هذه البنى الزمنية لها أيضًا أهمية متزايدة في مسرحياتي. في مسرحية واحدة على الأقل أصبحت البنى الزمنية هي جوهر العمل بأكمله، هي ما يدور حوله العمل. أعتقد أن هذا بدأ بالكابتن بانتوخا؛ لأنني منذ ذلك الوقت الذي كتبت فيه هذا الكتاب أصبحت مولعًا بهذه الإمكانية الشكلية. أحد أسباب أهمية الأدب أنه يمنحنا أداة نستطيع أن نفهم بها الوقت في الحياة الواقعية؛ الزمن هو شيء يقوم بافتراسنا، هو شيء لا يمنحنا المنظور الضروري لنفهم كيف ينساب هذا الزمن ونحن مغمورون فيه، لذا لا نمتلك منظورًا، لا نمتلك المسافة الضرورية لنفهم ماذا يحدث فعلا. وبناء عليه نحتاج إلى نظام صناعي من أجل أن نفهم الوقت. 

إحدى كبرى مساهمات الأدب في حيواتنا أنه يؤسس نظامًا صناعيًا للعالم، للزمان، للمكان والتجربة الحية، خاصة الأعمال العظيمة، الروائع الأدبية هي أدوات تسمح لنا بتكييف أنفسنا على هذا الغور، هذه الدوامة؛ أي الحياة الواقعية والتجربة الحية. عندما تستكشف إمكانية خلق بينة زمنية في قصة، فأنت لا تفعل شيئًا هو من قبيل الإنجاز الفني فحسب أو مجرد إنجاز في المهارة الشكلية، في امتلاك زمام اللغة والتقنيات من أجل تنويم القارئ، أنت أيضًا تبتدع أداة يمكننا من خلالها أن نفهم بشكل أفضل كيف تحدث التجربة اليومية، التجربة الحية في الواقع. لذا فإن هذا الولع بالزمان وهو صفة للأدب الحديث، ليس شيئًا مجانيًا أو صناعيًا، إنه طريقة للتعامل مع الواقع الذي نشعر فيه بضياعنا، خاصة في المجتمعات المعاصرة؛ فنحن نصبح عديمى الفائدة بشدة،  ضئيلين للغاية في هذا العالم غير العادي وغير الشخصي، عالم المجتمعات الحديثة مما يجعلنا في حاجة إلى طريقة نصنع بها أنفسنا في هذا العالم، هذا التنظيم المصطنع الذي يمنحه الأدب هو شيء يساعدنا في الحياة الواقعية على أن نكون أقل ضياعًا وحيرة.


ثانية يعتبر الزمن والبيئة شيئين يعيهما الكتاب بشدة في الأدب الحديث بعكس الروائيين الكلاسيكيين. ربما لم يفكر ديكنز وسرفانتس أو هوثورن قط في إبداع بنية زمنية في الرواية، لكن ذلك لا يعني أنهم لم يبتدعوا بنى زمنية، بل وبنى شديدة التعقيد والأصالة في رواياتهم، فبالنسبة إلى الكتاب الكلاسيكيين جاء ابتداع البنى الزمنية بشكل تلقائي بالغريزة وبالحدس. فقد كانوا يظنون على سبيل المثال أنهم يتعاملون مع مشكلات أخلاقية وظنوا أن المشكلات الأخلاقية هي المشاكل الأساسية في الرواية. لكنهم تعرضوا في الوقت نفسه وبشكل عملي للمشاكل نفسها التي يتعرض لها الروائي المعاصر. فعندما تكتب قصة يجب أن تبتدع بنية، بنية تختلف في القرن الثامن عشر عنها في القرن العشرين. لكنها تحتاج بنية، تحتاج أن تستخدم اللغة بطريقة تجعل القصة مقنعة للقارئ، يجب أن تستخدم بعض الحيل، بعض التقنيات، تعطي بعض الحقائق وتخفي بعضها الآخر حتى تبدع بنية أدبية. لم يكن الروائيون الكلاسيكيون واعين بهذه المتطلبات أو على الأقل لم يستخدموا لغة تعطي دليلا على وعيهم. أول روائي في القرن التاسع عشر وعى بهذه المشكلات التقنية والشكلية المحضة في الرواية كان فلوبير. فمع فلوبير ظهرت الرواية لأول مرة ليس فقط كمهنة أخلاقية أو إبداعًا لقصة لكن أيضًا كمشكلة تقنية بحق، مشكلة إبداع لغة مقنعة وتنظيم الوقت وكذلك مشكلة وظيفة الرواي في الرواية. ربما اهتم عدد قليل جدًا من الكتاب في الماضي بتقنيات وشكل الرواية كشيء منفصل عن القصة نفسها.

تعليقات

  1. موضوع شيق جداً سلمت على هذه المعلومات الإثرائية..

    ردحذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات