أعداء الحوار (مقتطفات)





الفكرة العامة القائلة بأن اللاتسامح مرجعه الجهل لا تصمد أمام أي تحليل متأن: ففي أغلب الأحوال "يرغب" اللامتسامح في الجهل، فهو لا يشعر بأي احتياج لتعلم أي شيء ممن لا يفكرون على نفس شاكلته. إنه "يعرف" أن كل ما يعتقده هذا الآخر، كل ما يقوله أو يفعله هو خطأ ولذلك فهو لا يريد حتى أن يسمع أي شيء عنه.

كثيرًا ما يتخطى اللامتسامح حدود المتعصب البسيط، فذلك الأخير لا ينوي أن يتحرك ملليمترا واحدًا عن مواقفه، ولكنه يمكنه رغم كل شيء الإقرار بشرف بأن للخصم أسبابه لكي يتصرف بمثل هذه الطريقة. أما اللامتسامح فهو لا يرضى بالتزام مواقفه. فالأمر الذي يضغط عليه أكثر من أي شيء آخر هو أن يكون على حق وأن يفرض هذا الحق على الآخرين.

فاللاتسامح يحمل في طياته شحنة انفعالية عالية. شحنة ليست دائمًا أو بالضرورة شريرة، بل على العكس يمكن أن تكون شحنة مثالية.

نعم؛ بالفعل هكذا: شحنة مثالية.

كتب أموس أوز: "إن المتعصب هو أكثر المخلوقات غير النفعية على الإطلاق؛ يريد أن يخلصك، يريد أن يحررك، يريد أن يخلصك من زلة الخطأ، من التدخين، من إيمانك أو عدم إيمانك، يريد أن يحسن عاداتك الغذائية، بربد أن يمنعك من شرب المسكرات أو من التصويت بطريقة خاطئة."

وإذا ما بحثنا أكثر يمكن للاتسامح، أيضًا في أقل صوره هوسًا وتعصبًا، أن يرجع إلى الشوق الدفين من أعماق كل إنسان إلى الترفع عن ترهات الحياة اليومية، أو الرغبة في الاستعراف وإثبات الذات. وأيضًا كما أشار بول فاليري في خطاب شهير له بجامعة السوربون عام 1932، قبل عام واحد من صعود النازي، بأن اللاتسامح أيضًا يمكن إرجاعه إلى "هوس النقاء."

ويؤكد لنا التعبير المستخدم في اللغة الشائعة والذي يصف اللامتسامح بأنه ذلك الشخص "الذي يعرض عن سماع الأسباب"، هذا المحتوى العاطفي، الذي يؤدي بفرد ما أو بجماعة ما إلى أن تتطوع لحمل يقين مطلق يجب على الآخرين مشاركتها فيه، وإن لم يفعلوا فجزاؤهم التهميش، أو الطرد، أو حتى التصفية الجسدية.

هذا الأساس الانفعالي يربط اللاتسامح مع الوعي الذاتي بعلاقة قوية، وبالتالي يربطه بتطور الإنسان. وكلما بعد هذا الإنسان عن باقي العالم الحيواني من خلال خلق معتقدات مجردة ازداد فخرًا بتفرده وشعر بأنه مضطر للدفاع عنها بحياته، بالإضافة إلى المعتقدات النسبية التي تحدد جوهره. وذلك يمكنه أن يفسر كيف وصل اللاتسامح إلى ذروته في العصر الحديث، عندما وصل قلق الإنسان إزاء اليقين وإزاء إثبات الذات إلى أقصى درجاته.

في الماضي كان اليقين المطلق للحقيقة تقريبًا ما يتخذ شكلًا دينيا فقط: كان الحق فقط هو وجود إله واحد. ثم بعد ذلك أضيفت أنواع يقينية أخرى قطعية، رويدًا رويدًا كلما كان فكر الإنسان ينفصل عن المحددات الدينية ليصبح أكثر استقلالًا وتعقيدًا، مثل: الحقيقة التي تأتي من العرف، من الرئيس، من العلم، من أحد المثل. أصبحت مشاعل كثيرة مضيئة ونقاط كثيرة راسخة، نذكرها في إجلال وتكتب بحروف استهلالية كبيرة، أصبحت بديلة للآلهة.

اليوم وقد أزيل تمثال ماركس من قاعدته، تتم إعادة تقييم مطرد لدور الانفعالات في سلوك الفرد والجماعة. ليس فقط فلاسفة وعلماء نفس وعلماء سياسة يستشهدون بأسطورة أفلاطون الشهيرة: العربة التي يجرها حصانان؛ الحصان الأسود الرامز إلى "النفس الشهوانية" للغرائز، والحصان الأبيض الرامز إلى "النفس العاطفية" أي العواطف؛ بالكاد يكبحهما الحوذي "النفس العاقلة". " التيموس" أي السخط والغضب المقدس في دعم أحد المثل أو للثورة في وجه الشر، يمكن أن يدفعنا إلى التضحية بالنفس والنفيس، وبالتالي يمكنه أن يؤدي إلى عنف أعمى ضد كل ما يبدو وكأنه تهديد لنا.

ألهذا السبب ازداد اللاتسامح في ظل ما يسمى بالتطور؟ ألهذا أصبح دائمًا أقل بدافع غريزة ودائمًا، ودائمًا، أكثر فأكثر، كنتاج عقلاني أو روحي؟ ربما. حاول فولتير أن يخفف من دراماتيكيته فكتب: "أتوجه إلى الله بتضرع مقتضب: إلهي فلتسخر من أعدائي!". ولكن هيهات هيهات. لا يوجد أي شيء في اللاتسامح يمكن أن يستخف به. إنه شيء تراجيدي بشكل بغيض. فالمتطرفون يتدخلون بأعمالهم العنيفة بخاصة عندما يكون هناك نزاع على وشك أن تخف وطأته.

استنادًا لما لاحظناه آنفًا يمكننا إذن أن نحدد أربعة أشكال رئيسية للاتسامح؛ أربعة مظاهر مختلف نلحظ من خلالها نفس الظاهرة: اللاتسامح الديني؛ اللاتسامح الثقافي؛ اللاتسامح السياسي؛ اللاتسامح الأيدولوجي أو المذهبي.

أربعة طرق لرفض الحوار، تقوم جميعها على نفس المنبع: اليقين المطلق الذي يأمرنا بأن نرفض أي إدعاء بوجود حقيقة أخرى. اللاتسامح الديني ليس إلا اليقين المطلق بحقيقة تأتي من الله؛ اللاتسامح الثقافي هو اليقين المطلق بحقيقة تأتي من الآباء؛ اللاتسامح السياسي هو اليقين المطلق بحقيقة تأتي من الرئيس؛ وأخيرًا اللاتسامح الأيدولوجي هو اليقين الطلق بحقيقة تأتي من العقل.

*** *** ***

إذا كان قبولنا لشيء ما سببه أنه لا يمسنا من قريب أو من بعيد، ولا يخلق لنا مشاكل، فلا يمكننا أن نسميه تسامحًا. ...إن عنصر الاحتمال، أي المعاناه مكون أساسي. إن مصطلح التسامح يشتق من الفعل اللاتيني يتحمل (tolerare)، ونفس الكلمة (tolleranza) تستخدم كمصطلح فني وهو "حمل" أي أقصى درجة توتر يمكن لجسم ما تحملها قبل أن يصل إلى نقطة الانهيار.

إن من يتسامح يتحمل شيئًا ما يسبب له الضيق. يقرر أن يترك الأمور تجري في أعنتها إيثارًا للسلام، بيد أنه يتألم نظرًا لتأذي مشاعره وإرباك عاداته.

وعادة لا يلقى هذا الجانب الاهتمام الذي يستحقه، بيد أنه هو ما يمنح التسامح معناه الحقيقي، فاعليته العملية، مستثنيًا إياه من مملكة اليوتيوبيا. يعتقد الكثيرون ممن يلتبس عليهم الفرق بين "التسامح والتضامن"، أن التسامح إزاء موقف معين يساوي تفهمه وجعله جزءًا من الذات. على العكس تمامًا. إن التسامح يصبح له معنى فقط في وجود تناقض، عندما تتقابل سلوكيات وطرق في التفكير غير متوائمة تمامًا فيما بينها، من ينجح في امتصاص هذا التناقض والتسامي به، ليس في حاجة للتسامح.

أما من يتسامح فهو ينجح فقط، وفي منتهى الصعوبة، ولا يكون ذلك بالشكل التام مهما حاول جاهدًا، أن "يضع نفسه مكان الآخر". وهذه نقطة حرجة. [...] التسامح لا يعني على الإطلاق الاستغناء عن اليقين الشخصي الراسخ، بل فقط الاستغناء عن ترسيخه بوسائل مغايرة لوسائل الإقناع. وهو ما يطلق عليه أحد المؤرخين التونسيين وهو محمد الطالبي: "تحمل رضائي".

إذن التسامح بإيجاز يهدف إلى إيجاد الحد الأدنى من التعايش [...]. نظرًا لأن الحكمة التوراتية القائلة: "حب لجارك ما تحب لنفسك"، ظلت حبرًا على ورق، فلنحاول على الأقل أن نتبع أكثر المعايير تواضعًا "احترم جارك".

فلننح جانبًا أي ادعاء بأننا نحب أو على الأقل نقبل جارنا، الذي يصلي، أو يلبي، أو يأكل بطريقة مخالفة لطريقتنا، وغالبًا ما يختلف لون بشرته عن لون بشرتنا. فلنتحدث ولنتخذ سلوكًا خاليًا من النفاق، دون محاولة إخفاء عدم إعجابنا بهؤلاء أو كم هو قدر الاحترام الذي نشعر به تجاه ما يقولون ويفعلون. الشيء الوحيد المطلوب منا كخطوة أولى هو أن نهجر أي فكرة تدعو إلى إزالة هؤلاء من على وجه البسيطة لكونهم مختلفين. ...

*** *** ***

من الاستفهام السابق تتبع علامات استفهام أخرى كثيرة. هل وجود نية حسنة محتملة لدى من يمارسون الشر يعتبر أم لا يعتبر عاملًا مخففا؟ هل يخفف الأمر من حدة جرائم هتلر كونه مقتنعًا بفعل الخير لشعبه وربما للإنسانية؟ ... هل كانت مثل تلك الموضوعات ستكون ممدوحة ومقبولة؟ هل سيكون بن لادن أقل خطأ لو تم التحقق من أنه يعتقد بصدق إنه ينفذ إرادة الله؟ يبدو أنه يجب أن نخلص إلى أن الأمر الذي يعتد به ليس النوايا بقدر ما هو العواقب العملية للأفعال.

ومرة أخرى فإن التوجه البرجماتي الكامن في مفهوم التسامح يبدو وأنه الوحيد الذي يمكن ممارسته للخروج من هذه الورطة. وبعض المفكرين المعاصرين مثل ريتشارد رورتي يشجعنا على هذا. فهو يمدنا على أية حال بمعيار لتحديد متى يتم تخطي حد قابلية التسامح: هذا يحدث عندما تتعرض إمكانية القيام، مستقبليًا بأي شكل من أشكال الحوار، نفسها للخطر.

وهو ما يسميه كارل بوبر "عبث اللاتسامح". لو أننا مددنا تسامحًا بلا حدود حتى إلى اللامتسامحين (وهذا هو جوهر أطروحته)؛ لو أننا لم نكن مستعدين للدفاع عن مجتمع متسامح ضد هجمات اللامتسامحين، إذن سوف يتم تدمير المتسامحين ومعهم يتم تدمير التسامح.


مقاطع من كتاب: أعداء الحوار: أسباب اللاتسامح ومظاهره
مايكل أنجلو ياكوبوتشي
تقديم: أمرتو إيكو
ترجمة: عبد الفتاح حسن
القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 2010.
سلسلة مكتبة الأسرة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

فن الكم = Quantum art

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات