مصادر بورخيس

 خورخيه لويس بورخيسJorge Luis Borges


بقلم: أندريه موروا
ترجمة: خليل كلفت

(الفقرات هنا هي مقاطع مقتبسة بتصرف من المقال، لقراءة المقال بالكامل يمكن الرجوع إلى كتاب: عوالم بورخيس الخيالية: مجموعة مقالات عن حياته وأدبه/ تأليف أندريه موروا وآخرين؛ ترجمة: خليل كلفت.- القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة،1999)

     مصادر بورخيس لا تعد ولا تحصى كما أنها غير متوقعة، فقد قرأ بورخيس كل شيء، وخاصة ما لم يعد يقرأه أحد: القبالانيين، الإغريق السكندرين، فلاسفة القرون الوسطى. واطلاعه ليس عميقًا - فهو لا يطلب منه سوى ومضات برق خاطفة وأفكار - لكنه هائل الاتساع. وعلى سبيل المثال: كتب باسكال: " الطبيعة كرة لانهائية مركزها في كل مكان، ومحيطها ليس في أي مكان". ويشرع بورخيس في تعقب هذه الاستعارة عبر القرون، ويعثر عند جيوردانو بونو (1584) على ما يلي: " يمكننا أن نؤكد بيقين على أن الكون كله مركز، أو أن مركز الكون في كل مكان، ومحيطه ليس في أي مكان غير أنه كان" بوسع جيوردانو برونو أن يقرأ عند عالم لاهوت فرنسي من القرن الثاني عشر، آلان دو ليل، صياغة مقتبسة من Corpis Hermeticum [مجموعة السيمياء "السحر الطبيعي] (القرن الثالث): "الموجود كرة مدركة بالعقل مركزها في كل مكان ومحيطها ليس في أي مكان" ومثل هذه الاستقصاءات ... تبهج بورخيس وتقوده إلى موضوعات قصصه.


     كان كافكا سلفا مباشرًا لبورخيس. وكان يمكن أن تكون القلعة لبورخيس لكنه كان سيضغطها إلى عشر صفحات. أما أسلاف كافكا فمن دواعي سرور اطلاع بورخيس الواسع أن يجدهم يتمثلون في زينون الأيلي، وكيركجارد، وروبرت براونج. ففي كل مؤلف من هؤلاء شيء من كافكا، غير أنه لو أن كافكا لم يكتب ما استطاع أحد أن يلاحظ ذلك - ومن هنا هذه المفارقة البورخسية للغاية: "كل كاتب يخلق أسلافه".

     هناك شخص آخر يلهم بورخيس هو الكاتب الإنجليزي جون وليام ون، مؤلف تلك الكتب الشيقة عن الزمن والتي زعم فيها أن الماضي والحاضر والمستقبل توجد متزامنة، كما تثبت أحلامنا. (ويلاحظ بورخيس أن شوبنهاور كان قد كتب أن الحياة والأحلام، هي أوراق من نفس الكتاب: قراءتها بتسلسل هي الحياة؛ تصفحها هو الحلم). وفي الموت سنعيد اكتشاف كافة لحظات حياتنا وسنجمع بينها بحرية كما في الأحلام. "الرب يا أصدقائي وشكسبير سوف يتعاونان معنا". ولا شيء يسر بورخيس أكثر من التلاعب بهذه الطريقة بالعقل، والأحلام، والمكان والزمان. وكلما ازدادت اللعب تعقيدًا يغدو أسعد. فالحالم يمكن الحلم به بدوره. "كان العقل يحلم؛ وكان العالم حلمه". وفي كتابات كافة الفلاسفة، من ديمقريطس إلى اسبينوزا، ومن شوبنهاور إلى كيركجارد يقف بورخيس بالمرصاد للإمكانات الفكرية المنطوية على مفارقات.

(2)

     يمكن العثور في دفاتر فاليري على ملاحظات كثيرة مثل هذه الملاحظة: "فكرة لقصة مفزعة: يتم اكتشاف أن العلاج الوحيد للسرطان هو اللحم البشري الحي. النتائج المنطقية". يمكنني حقًا أن أتصور قصة لبورخيس مكتوبة حول موضوع كهذا. فهو عندما يقرأ الفلاسفة القدامى والمحدثين يقف عند فكرة أو فرضية. وتومض الشرارة. وهو يتساءل: "إذا تم تطوير هذه المسلمة العبثية إلى نتائجها القصوى، فأي عالم سيخلقه هذا؟"

     على سبيل المثال، يأخذ مؤلفُ -بيير مينار- على عاتقه تأليف دون كيخوتة - ليس كيخوتة أخرى، بل الكيخوته. منهجه؟ أن يتعلم الأسبانية جيدًا، أن يعيد اكتشاف المذهب الكاثوليكي، أن يحارب المغاربة، أن ينسى تاريخ أوروبا- باختصار، أن يصير ميجويل ثيربانتيس. عندئذٍ سيكون التطابق كليًا بحيث يقوم مؤلف القرن العشرين بإعادة كتابة رواية ثربانتس حرفيًا، كلمة بكلمة، وبلا رجوع إلى الأصل. وهنا يقدم بورخيس هذه الجملة المذهلة: "نص ثيربانتس ونص مينار متطابقان حرفيًا، غير أن النص الثاني أغنى بصورة مطلقة تقريبًا".
 
(3)

     وفي كثير من الأحيان يذكرنا الشكل عند بورخيس بالشكل عند سويفت: نفس الوقار وسط العبث، نفس الدقة في التفاصيل. ولإثبات اكتشاف مستحيل، سيختار بورخيس نغمة الدارس الأشد تدقيقًا، فيمزج كتابات متخيلة بمصادر حقيقية ومتبحرة. وبدلا من أن يؤلف كتابًا بأكمله، الأمر الذي يضجره، يحلل بورخيس كتابًا لم يوجد قط. وهو يتساءل: "لماذا نستغرق خمسمائة صفحة لبسط فكرة يستغرق عرضها الشفوي دقائق معدودة؟"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

النوافذ

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات