مقتطفات من كتاب "المخ الجديد" لريتشارد ريستاك
غلاف كتاب المخ الجديد في طبعة مكتبة الأسرة بمصر |
بقلم: ريتشارد ريستاك
ترجمة: عزة هاشم أحمد
ترجمة: عزة هاشم أحمد
يؤدي النظر إلى العبقرية باعتبارها سمة وراثية خالصة إلى التشاؤم، حيث تجعل تلك النظرة من التمييز شيئًا حتميًا. فإذا كان للجينات تلك الأهمية العظمى، فمن الطبيعي أن تكون منطقة الوسط هي الموقع الحتمي والدائم لمعظم الناس. ومن جانب آخر إذا كانت هناك إمكانية أن يؤدي مجهود الفرد إلى تحسين بنية المخ ووظيفته لديه – والتي تتبدى فيما يتميز به العباقرة من تكوين ضخم للذاكرة طويلة المدى، فإن ذلك يعنى أن جميعنا – حتى لو لم نولد عباقرة - قادرون على تحقيق مستويات من الأداء تميزنا، على الأقل عن الغالبية العظمى من منافسينا.
وعندما وضعت ذلك التساؤل حول الإسهام الوراثي في مقابل الإسهام البيئي أمام أندريس أريكسون – وهو عالم نفس من جامعة ولاية فلوريدا قضى الأعوام العشرين الماضية في دراسة العباقرة والموهوبين في مجالات الغوص، والترفيه، والآداب – أكد بقناعة تامة على عدم وجود مكونات وراثية تميز هؤلاء العباقرة، حيث يكمن جوهر التميز – من وجهة نظره – في: "أن تمتد بقدراتك إلى أقصى حدودها، وأن تزيد من تحكمك في أدائك.
على القائد المحترف أن يكف بشكل شعوري عن الميل التلقائي لتعجل الوصول إلى الآلية في القيادة، وبينما يميل السائق العادي للتعلم بأقصى سرعة ممكنة؛ كي يتمكن للالتفات إلى أنشطة أخرى كالتحدث مع مرافقيه. يجب على سائق السباق المحترف أن يظل منغمسًا في خبرة القيادة بنسبة 100% ، وعليه أن ينمي قدرته على تجزئة تلك الخبرة إلى عوامل متعددة مع العمل على تنمية كل من تلك العوامل بشكل منفصل.
*** *** ***
وهنا تكون "المهمة" وليس "الذات" هي محور نشاطه العقلي. ويحصن ذلك الاتجاه – القائم على التركيز على المهمة – الفرد ضد الضغط الشديد الذي قد يتعرض له أثناء اللعب. وذلك على نقيض اللاعب الهاوي الذي يقع ضحية لعلاقة معروفة بين ثلاثة متغيرات: الاستثارة، والانتباه، والأداء. حيث يحول اللاعب الهاوي انتباهه إلى الداخل عندما يتعرض لمستوى مرتفع من الاستثارة و(أو) القلق. وبالتالي يتمركز انتباهه حول ذاته بدلا من أن يكون مركزًا حول المهمة التي يؤديها. ويعوق هذا من التركيز على جوانب الأداء التي تعلمها سابقًا مما ينتج عنه انهيار الأداء تحت وطأة الضغط (Choking)، وهو مصطلح يستخدمه الرياضيون يشير إلى عدم القدرة على الأداء طبقًا لمستوى سابق للرياضي. وعادة يكون القلق هو سبب الانهيار. ويعتمد احتمال أن يتعرض الرياضي لهذه الحالة على الموقف وعلى سمات شخصيته. ويحدث الانهيار عادة عندما يركز الرياضي اهتمامه على ما يعتقده الآخرون (المشاهدون – المدرب – الزملاء) عن أدائه.
...
ويقول عازف الكمان نادجا سالرنو: " إن اتجاهي في الأداء مؤداه أن وقت الحرص هو وقت الاستعداد، ولكن عندما أبدأ الأداء أقول لنفسي: غامر واغتنم الفرصة"
*** *** ***
توصل إريكسون – بناء على الدراسة التي قام بها – إلى إرساء قاعدة أطلق عليها "قاعدة السنوات العشر" مؤداها أن : "المستويات العليا من الأداء والإنجاز تتطلب، للوصول إليها، حوالي عشر سنوات على الأقل من الإعداد المركز السابق". بالإضافة إلى ذلك، يعتقد أن أي شخص يكرس الوقت الضروري يستطيع الوصول إلى أقصى درجات من الأداء.
...
ولم تظهر علامات العبقرية في مجال الرياضيات لدى جام، حتى بدأ في سن العشرين يخصص أربع ساعات يوميًا على الأقل للقيام بتمارين حسابية مع تخزين قواعدها، وخطواتها، والحقائق الرياضية الأخرى في ذاكرته. أضف إلى ذلك أن خبرته محدودة، فهو لا يؤدي أداءً متميزًا في مجال آخر سوى الحساب.
وقد خالف جام قاعدة إريكسون أيضًا في أنه قد وصل إلى ذلك المستوى في أقل من عشر سنوات. وهناك أمثلة للعديد من الأشخاص الذين وصلوا إلى مستويات متميزة من الأداء قد تصل إلى حد العبقرية في أقل من عشر سنوات – ومنهم – على سبيل المثلا – موزارت الذي كتب أول إبداعاته في الخامسة، وأصبح في العام التالي الأكثر شهرة في العزف على الكمان والبيانو. ولقد علل إريكسون وصول بعض الناس إلى المستوى العبقري من الأداء في أقل من عشر سنوات قائلا: يكمن السر في زيادة تحكم الفرد في كل مكون من مكونات أدائه".
*** *** ***
هل تستند إنجازات الأشخاص المتميزين كلية على التدريب المركز المقترن بعزيمة قوية؟ أم أن الوراثة تلعب دورًا – ولو بسيطًا – في ذلك؟. هذا السؤال في اعتقادي، من نوع الأسئلة غير القابلة للحل، وذلك لسبب واحد وهو أنه إذا كانت الوراثة تلعب دورًا فمن غير الواضح ما الجانب الموروث بالضبط؟ فربما لا تسهم الوراثة في النبوغ ذاته، وإنما تسهم في قدرة المتميزين على الإطالة من ساعات التدريب. بعبارة أخرى: ربما تتضمن الوراثة ما أطلق عليه علماء النفس "هوس التفوق" (A rage to master) والذي يعبر عن: "قدرة العباقرة والموهوبين على تكريس كل ساعات يقظتهم تقريبًا للسعي نحو اتقان تخصصهم" وطبقًا لتلك النظرية يمكن لمحترفي لعبة الشطرنج أن يصلوا إلى درجة الاحتراف نفسها في مجالات أخرى كالتنس، والجولف – لو كرسوا جهدهم في سبيل احتراف إحدى تلك الرياضات بدلا من الشطرنج- ولكن: هل ينجح ذلك؟
أنا شخصيًا أشك في هذا، إذ باستثناء عباقرة نادرين على مر التاريخ مثل نيوتن، وديكارت، لا نجد سوى القليل من الناس هم الذين وصلوا إلى مستوى عالمي من الإنجاز في أكثر من مجال.
وخلاصة ما سبق: أنه لا يوجد حل قاطع لمشكلة الوراثة، والبيئة، فالجينات لا تمارس تأثيرها إلا في بيئة معينة. ومهما كان إسهام الوراثة قويًا، تظل البيئة هي المتحكمة في نمو الموهبة وتطورها، فلا يظهر شخص ما موهوب ومبدع في مجال الموسيقى مثلا، إلا إذا وجد نفسه بين آخرين يقدرون قيمة الموسيقى ويدعمون المبدعين في ذلك المجال.
وعلى الجانب الآخر من السؤال: هل يمكن أن يحول التدريب المركز – في مجال ما – الشخص العادي إلى شخص آخر نابغة، وقادر على إنجاز أعلى مستويات من الأداء؟ لقد قضيت وقتًا في دراسة هذا السؤال، ومحاولة التفكير في إجابة له وأجريت حوارات مع العديد من الخبراء – أمثال أريكسون – فوجدت أنه على الرغم من آرائهم التي بدت مفعمة بالأمل والتفاؤل، فإنها لم تكن مقنعة بشكلٍ كافٍ. وعلى الرغم من إمكانية أن يؤدي التدريب المركز والمتأني إلى أداء متميز، فإنني أشك في أن يكون الأمر بهذه البساطة، لأن هناك إسهامًا عظيم الأهمية للوراثة لا يمكن تجاهله مهما كان ضئيلا.
يقول توماس إديسون في ذلك الصدد: "العبقرية 99% منها عرق، 1% منها وحي وإلهام". وبالرغم من إمكانية أن يؤدي التدريب المركز والشديد بمعظمنا إلى إنجاز قدر متميز من الأداء، إذا تزامن مع رغبة شديدة في أداء ذلك العمل، فإنه سيظل هناك جانب قليل الإسهام ولكن عظيم الأهمية، وهي نسبة ال1%، والتي تولد اختلافًا في المستويات الأعلى من الأداء بين من هو الأفضل، ومن هو الأفضل منه بجدارة.
ولا يحتمل أن يقدم لنا علم المخ في القرن الواحد والعشرين شرحًا كاملا لسر العبقرية والأداء الخارق. ومهما كان الإسهام النسبي – لكل من "الفطرة"، و"العمل الجاد" في النبوغ، فإن الأداء المتميز يقوم بشكل نهائي على المطاوعة الوراثية للمخ. ويمكن أن نستخلص مما سبق قانونًا بسيطًا وسهل التطبيق هو : " اختر مجالا يروقك للعمل أو للنشاط، ثم اعمل بجد ونشاط كي تصل إلى إعادة تنظيم كبير لدوائر مخك".
*** *** ***
كما ذكرنا سابقَا فإن الفصوص الجبهية لها أهمية معنوية في تكوين البرامج الحركية اللازمة للأداء الرياضي المتميز أو العزف الموسيقي الجيد. ولدوره في كل هذه الوظائف المهمة ينظر إلى اللحاء قبل الجبهي باعتباره "المركز العام للذكاء".
ويرتبط الذكاء العام بكمية المادة الرمادية في الفصوص الجبهية (تتكون المادة الرمادية من أجسام الخلايا العصبية بينما تتكون المادة البيضاء من تجمع لمحاور تلك الخلايا). ويزداد الذكاء بزيادة أجسام الخلايا العصبية بالمقارنة بتجمعات الألياف التي تربط بينها (أي بزيادة المادة الرمادية عن المادة البيضاء) في الفصوص الجبهية، وبالتالي يميل الأفراد ذوو الحجم الأكبر من المادة الرمادية في الفصوص الجبهية إلى الأداء بشكل أفضل في اختبارات الذكاء.
...
ولا تكثر المادة الرمادية لدى أصحاب الدرجات الجيدة على اختبارات الذكاء فحسب، ولكن هذه الزيادة ترتبط أيضًا بالوراثة، فالمادة الرمادية تكون أكثر تماثلا لدى التوائم المتطابقة (لأنهم يشتركون في الجينات نفسها) عن التوائم غير المتطابقة (والتي تختلف في جيناتها الوراثية)، كما يميل التوائم المتطابقون لأن يكونوا أكثر تشابهًا في درجات الذكاء. فإذا ازداد حجم المادة الرمادية في المنطقة الجبهية فإن ذلك يؤدي إلى حصولهم على درجة أعلى على درجات الذكاء.
وهنا يطرح سؤال مهم هو: هل تعني هذه النتائج أن الذكاء يتحدد عند الميلاد؟ وهل نرث مستوى ذكائنا ولا نستطيع أن نتعداه كثيرًا؟ لحسن الحظ أن ذكاء كل منا – حتى لو لم نولد عباقرة – مرن وقابل للتغيير. إن تكوين الدوائر العصبية للمخ يتأثر بمجموع خبراتنا، فكلما كانت تلك الخبرات أكثر تنوعًا وغنى وتحديًا، ازداد غنى الدوائر العصبية، وإن كانت هناك حدود بالطبع لا يمكن تعديها. كما لا يمكننا القول بإمكانية أن يتحول شخص متوسط الذكاء إلى أينشتاين بمجرد إلحاقه بدورات مكثفة في عالم الطبيعة.
...
وبالرغم من كفاءة التصوير التكنولوجي في إظهار المواقع المهمة التي ترتبط بالذكاء في المخ، فإنني لا أعتقد أنه يمكننا الاستعاضة بها عن مقاييس الذكاء التقليدية، وحتى في المواقف التي تكون الفروق فيها أكثر تحديدًا مثل: زيادة المادة الرمادية الجبهية لدى ذوي الذكاء المرتفع، فسنظل نواجه مشكلة جدلية شبيهة بمشكلة "البيضة والدجاجة". ويرى عالم الجهاز العصبي السلوكي روبرت بلومن أن الأفراد ذوي الدافع الأقوى قد يقومون بتدريب أمخاخهم بشكل أكثر جدية، مما يؤدي إلى أن تنمو الخلايا العصبية في اللحاء الجبهي بشكل أكثف.
وبالرغم من التوق إلى الوصول إلى تعريف محدد لمفهوم الذكاء وتحديد موقعه فإن الجهود التي تهدف إلى ذلك لا تزال تصطدم بعائقين رئيسين هما: عدم الاتفاق على ماهية الذكاء، أو ما الذي تقيسه اختبارات الذكاء بالفعل؟ بالإضافة إلى ذلك، وكما يرى روبرت سترنبرج: "هناك كم هائل من التعاملات اليومية التي لا تدخل فيما تقيسه اختبارات الذكاء، أو فيما يمكن أن نسميه بالذكاء، وتفشل هذه الاختبارات في أن تضع في اعتبارها صفات وظيفية مهمة للسلوك مثل: الدافعية، والمهارات الاجتماعية، والثبات في مواجهة المحن، ووضع أهداف معقولة وإنجازها".
ومن الأفضل أن تكون نظرتنا للذكاء مثل نظرتنا للعبقرية والأداء المتميز باعتباره وراثيًا جزئيًا، ومكتسبًا جزئيًا أيضًا بما يسمح بالتغير. بما أن هناك العديد من الجينات تسهم في صياغة بنية المخ ووظيفته، فإن فكرة وجود جين منفرد خاص بالذكاء أصبحت غير مرجحة إلى حدٍ بعيد، الصحيح هو أن العديد من الجينات تجتمع لتسهم في صياغة ذكاء الفرد وتحديد نمط ذلك الذكاء (ذكاء الفنان في مقابل ذكاء رجل الأعمال على سبيل المثال) – فضلا عن ذلك – فإننا نستطيع بجهودنا أن نحسن جوانب من ذكائنا، حتى ولو لم تزد الدرجة الكلية التي نحصل عليها في اختبارات الذكاء المقنن. وبدلا من الخضوع لقوى الحتمية فإننا نحتفظ بالتحكم اللازم لتمكين أمخاخنا من أن تؤدي الوظيفة على أحسن ما يمكن، ويعود الفضل في ذلك إلى مطاوعة المخ.
*** *** ***
وللتعرف على الحركة قيمة بقائية لدى الحيوانات، إذ تمكنها من الهرب من الافتراس، كما أن لها أيضًا فوائد اجتماعية وسيكولوجية في حياتنا الشخصية. مثال ذلك: أن الطفل الرضيع يقلد خلال الأيام الأولى من حياته الأفعال، والتعبيرات الوجهية للراشدين، فهو يخرج لسانه محاكاة للراشد الذي يقوم بالفعل نفسه. يمثل هذا السلوك أول جهود المخ التي تبذل لصياغة وتكوين الروابط الوجدانية مع الآخرين، كما أنها تقدم مثالا مبكرًا لمحاولة الطفل الرضيع إرساء روابط بين الأفعال والحالات النفسية.
ويحاكي الرضيع في الشهر الثامن عشر الأفعال البشرية الملاحظة ويقوم بها كما يحدث عند تفكيكه للعبة معينة، ولكن الطفل يتجاهل ذلك إذا كان القائم بالسلوك آلة ميكانيكية. ويلاحظ العلماء أن هذا التقليد الانتقائي للسلوك الإنساني يقوم بدور الموجه الذي يساعد في تفسير سلوك الآخرين في ضوء نواياهم ورغباتهم.
وبمحاكاتنا لسلوك شخص ما فإننا في الحقيقة نصبح مشابهين، ولذلك تزخر النصائح والأمثال الشعبية بالتنبيهات التي تحث على أهمية الاختيار الصحيح للنماذج التي تقوم بمحاكاتها، واختيار الصديق الأصلح مثلما نجد في المثل الشعبي الشائع: "الطيور على أشكالها تقع"، وما يقال عن المحاكاة باعتبارها أصدق صور التملق.
ويرى عالما الجهاز العصبي سارة جايل بلاك مور، وجين ديستي أنه: "من خلال محاكاة حركات شخص آخر ومضاهاتها بالتمثيلات المخزنة في المخ لأوامر الحركة الخاصة بنا وما يترتب على كل منها، قد نتمكن من تقدير الحالات الداخلية للشخص الذي نلاحظه، والتي لا يمكن قراءتها من خلال الملاحظة المباشرة لتلك الحركات. ويمكن لنظام المحاكاة هذا أيضًا أن يقدم معلومات تمكن من صياغة تنبؤات حول تحركات الشخص القادمة"، ويستطردان: "من الممكن أن يمكن نظام المحاكاة من التنبؤ بأفعال الشخص المستقبلية التي يمكن القيام بها."
وبالرغم من أن هذا قد يتشابه سطحيًا مع "قراءة الأفكار" القائمة على تواصل غير لفظي، فإنه أعمق من ذلك. فقد اكتشف علماء الجهاز العصبي حديثًا وجود خلايا عصبية تسمى "الخلايا العصبية المرآتية "mirror neurons" في أمخاخ القرود تنشط عند قيام القرد بحركة معينة أو عند رؤية قرد آخر بالحركة نفسها. وهناك دليل قوي على وجود عملية مرآتية مشابهة في البشر تظهر في صورة خلايا عصبية تنشط خلال ممارسة نشاط معين أو مشاهدة شخص آخر يمارس ذلك النشاط.
لقد قدم الروائي الاسكتنلدي جيمس هود وصفًا جيدًا للمحاكاة في روايته: "الاعترافات والمذكرات الشخصية لخاطئ له مبرره" كان مؤداها: "عندما أتأمل بشكل جدي ملامح شخص ما فإنني أتخلى عن شخصيتي وأتخذ نفس مظهره وهيئته، وقد أذهب لأبعد من ، فعندما يكون التأمل أكثر إمعانًا ودقة، فإنني لا أصل للهيئة نفسها والمظهر فحسب، بل أتعدى ذلك لأصل إلى المزاج نفسه والأفكار الخاصة بالشخص الذي أتأمله، فبتأملي لشخص ما أصل إلى مظهره الخارجي عن طريق محاكاته، ومن خلال ذلك المظهر أصل إلى أكثر أفكاره خصوصية".
ويستخدم الممثلون المحترفون فنيات مشابهة للوصول إلى لب الشخصية التي يقومون بأدائها. وبمحاكات تعبيرات الوجه والمشية والحركات الأخرى للجسم، يصبح الممثل قادرًا على أن يكون – كما يقول جوزيف كونراد – "الشريك السري في شخص فرد آخر". وتقدم نتائج بلاك مور وديستي، بالإضافة إلى ملاحظات هوج مبررات قوية لضرورة اختيار الفرد للنماذج السلوكية الجيدة كي يحاكيها. فإذا أردت أن تنجز ما يتطلب عزمًا واحتمالا فحاول أن تحيط نفسك بأفراد يتمتعون بتلك الصفات، وحاول أن تحد من الوقت الذي تقضيه مع من يبعثون الإحساس بالتشاؤم وعدم الجدوى في نفسك. إلا أن الانفعالات السلبية – لسوء الحظ – لها تأثير أقوى من الانفعالات الإيجابية في المواقف الاجتماعية، ويرجع ذلك إلى حدوث ما يسمى "العدوى الانفعالية" (Emotional Contagion).
ولقد كان أول تعرفي بالعدوى الانفعالية من خلال عالم النفس الكبير ستيفن ستوني – وهو خبير أمريكي في مكال دراسات الغضب في الشارع – حيث كان يرى أن: "الحنق والغضب أكثر الانفعالات عدوى، إنك تميل أن تكون غاضبًا ومستاءً إذا كان بالقرب منك شخص يشعر بتلك الانفعالات نفسها، فإذا عبر السائق في الطريق عن إشارات غاضبة وتعبيرات وجه عدائية، فسوف يحاكي السائقون المحيطون به ذلك السلوك بشكل لا شعوري. وبالتالي يتفشى الغضب والاستياء بين جميع السائقين، أضف إلى ذلك أن إثارة غضب السائقين الآن قد أصبح أكثر سهولة نتيجة لتدفق الأدرينالين المصاحب لغضبهم، ويزداد تبعًا لذلك احتمال الانغماس في مشاعر الغضب في الشارع".
وتوضح لنا تلك الأمثلة أن المخ عبارة عن آلة محاكاة قوية صممت للملاحظة والاستجابة للعديد من النوايات التي تبدو على الآخرين. يقوم علماء الجهاز العصبي بمزيد من الاستكشافات للكيفية التي تمكننا من أن نستدل على مشاعر الآخرين، أو مقاصدهم اللاشعورية من خلال ملاحظتنا لسلوكهم. وعندما نتعلم الكثير عن هذه العملية سنصبح أكثر قدرة على مراقبة سلوكنا والتأكد من أنه ليس مجرد استجابة لسلوك الآخرين.
*** *** ***
ولقد وصف الكاتب نورمان كوزين في كتابه الشهير "تشريح مرض كما أدركه المريض" كيف استخدم الفكاهة في علاج مرض سريع التفاقم، مجهول الهوية. فقد انتقل كوزين، بموافقة الطبيب، إلى الفندق بدلا من المستشفى، حيث شاهد لساعات عديدة يوميًا الأفلام القديمة للإخوة ماركس، ومواقف الكاميرا الخفية.
ويصف كوزين نتيجة ذلك قائلا: "لقد توصلت إلى أن 10 دقائق من الضحك الخالص لها أثر مسكن، حيث لا يقتصر الضحك على إتاحة فرصة تمرين داخلي للشخص الممدد على ظهرة فحسب، بل يستطيع الضحك أيضًا أن يخلق إطارًا مزاجيًا تستطيع الانفعالات الإيجابية أن تمارس تأثيرها من خلاله. بعبارة أخرى: يفسح الضحك المجال لحدوث الأشياء الجيدة".
ولقد أيد العلماء، في الأعوام الخمسية والعشرين التالية لكتاب كوزين أن الفكاهة تقلل من المشقة، وتحسن المناعة، وتهدئ من التوتر العضلي، وتقلل ضغط الدم والشعور بالألم. والسؤال هنا: ما الذي يحدث في مخك على وجه التحديد عندما تستجيب لنكتة معينة بالضحك؟
.....................
المصدر:
المخ الجديد: كيف يعيد العصر الجديد صياغة العقل
تأليف: ريتشارد ريستاك
ترجمة: عزة هاشم أحمد
تعليقات
إرسال تعليق
أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء