تحسين القبيح وتقبيح الحسن




بقلم: أحمد ع. الحضري
(١) 

لأبي منصور الثعالبي كتاب طريف في موضوعه، سمَّاه «تحسين القبيح وتقبيح الحسن»؛ في هذا الكتاب يجمع الثعالبي بعض ما نُسِب إلى البلغاء في تحسين ما تمَّ التعارف على قبحه، وتقبيح ما تمَّ التعارُف على حسنه. يقول هو عن موضوع هذا الكتاب، في مقدمته: «وما أراني سُبِقتُ إلى مثله في طرائف المؤلَّفات وبدائع المصنفات.» ويبرر اهتمامه بالتأليف في هذا الموضوع بقوله: «إذ هما غايتا البراعة، والقدرة على جزل الكلام في سر البلاغة، وسحر الصناعة.» 

يقول فيه عن الكذب مثلًا: «قال ابن التوءم: الكذب في مواطنه كالصدق في مواضعه، ولكن الشأن فيمَن يحسنه، ويعرف مداخله ومخارجه، ولا يجهل تزاويقه ومضايقه، ولا ينساه بل يحفظه. ومعلوم أنَّ من أجِلِّ الأمور في الدنيا الحربَ والصلح، ولا بد فيهما من الكذب؛ أما الحرب فهي خدعة، كما قال عليه الصلاة والسلام، وأما إصلاح ذات البين فالكذب فيه محمود؛ لما فيه من الصلاح، وقد رخَّصَ فيه السلف. ولا خلاف في أن الشعر ديوان العرب ولسان الزمان، وأحسنه أكذبه، وكذلك الكتابة لا تحسُن إلا بشيء منه، وقد جاء في المثل: «أظرف من كذوب.» وقال الأعشى:
فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كِذابه
في هذا المقطع المقتبَس، يتمُّ الدفاع عن الكذب بشكل شديد الذكاء، وذلك عن طريق التأكيد على ضرورة عدم تجاهُل السياق؛ يقول: «الكذب في مواطنه كالصدق في مواضعه، ولكن الشأن فيمَن يحسنه، ويعرف مداخله ومخارجه.» ويحيلنا بالتالي إلى سياقات يكونُ فيها الكذب مطلوبًا. 

الفكرة هنا هي أن كثيرًا من الأمور التي يشيع الحديث عن جانبها السلبي فقط، لها جوانب إيجابية تجعلها ضرورية للغاية؛ كالقلق الذي يدفع صاحبَه للفعل، والشكِّ الذي يدفع صاحبَه للبحث، وعدمِ الثقة بالنفس الذي يدفع صاحبَه إلى العمل على تطوير الذات. دائمًا نتحدَّث عن التفاؤل لكننا نحتاج اليأسَ أحيانًا كمحطة، كي نتوقَّفَ عن السير في طريقٍ ما، والبدء لاحقًا في السير في طريقٍ آخَر قد يكونُ أفضل. 

«فَلْتحيَ الوقاحة، إنها ملاكي الساحر في هذا العالم.» ينقل والتر إيزاكسون هذه المقولة عن أينشتاين في سياق تعبيره عن اختلافه وتمرُّده وعدم قبوله بالسائد، وينقل الثعالبي عن آخَر قوله: «الوقاحة كالقداحة، لولاها لما استعر لهبٌ، ولا اشتعل حطبٌ.» 


(٢) 

ولعلَّ وصْفَ الثعالبي لتحسين القبيح وتقبيح الحسن هنا بأنهما سرُّ البلاغة وسحرُ الصناعة، هو امتداد للمقولة الشهيرة المشار إليها في الاقتباس، التي تقول بأن أحسن الشعر أكذبه؛ ولم أستطِعْ قطُّ أن أفهم هذه العبارة بحرفيتها، وبالتالي لم أختلف معها كما اختلف معها الكثيرون، على اعتبار أن الكذب هنا هو نقيضٌ للصدق الفني، أو للتعبير الصادق عن المشاعر، لكني فهمتها على أنها طريقتهم في التفريق بين الكلام التقريري الجاف الذي يحاوِل التعبيرَ عن الحقائق المادية كما هي، وبين الكلام الشعري الذي يستعمِل الصور والمبالغات، ويُبرِز المفارَقةَ؛ من أجل التعبير عن مناطق الذات الإنسانية المثيرة للجدل. 

وفي هذا الكتاب أرى أن المقولات الأجمل فيه لم تكن مجرد لعب بالكلام، لم تكن دفاعًا جميلًا عن الخطأ بقدر ما كانت إبرازًا للمفارَقة الكامنة في ثنايا خطابنا وحديثنا؛ المفارقة التي تتكوَّن أحيانًا حين نُسقِط مقولاتٍ مسبقة على واقعٍ لا يناسِبها بالضرورة، وبالتالي تنشأ جمالياتُ مقولاتِ هذا الكتاب في كثيرٍ من مقتطفاته؛ نتيجةً لتحدي أو فضح الحس العام الذي يميل للتعميم والتبسيط. 

(٣) 

في صغري كان مفهومي عن الحقيقة مرتبطًا بالصياغات الجذَّابة التي تبدو متماسكةً؛ كانت البلاغةُ وجمالياتها مؤشرًا على ما هو حقيقي وصائب، لكن بعد ذلك أدركتُ أن هناك عدة طرق لصياغة نفس الحدث، وأن الأشخاص الذين يتناقضون معي في المواقف والرؤى قادرون كذلك على التعبير عن مواقفهم وتحيُّزاتهم بشكل متماسِك وجذَّاب؛ ستجدُ مثلًا أن شخصًا قد يبرِّر موقفَه باعتباره «ثباتًا على المبدأ»، بينما يصف آخَرُ نفسَ الموقف باعتباره «تحجُّرًا وجمودًا». سيصف أحدهم نظرةً ما للعالَم باعتبارها متفائلةً، بينما سيصفها آخَرون بأنها خيالية وغير واقعية. واللعبة هنا في أوقات كثيرة لا تكون لعبة بلاغية صِرفًا، بقدر ما تكون مرتبطة بانتقائيةٍ ما في النظرة، كأنْ تتمثَّل جزءًا من الحقيقة، وتبدأ في التعبير عنه على اعتبار أنه الحقيقة الكاملة، أو أن تنقل حقيقةً متماسكةً من منطقتها إلى منطقة أخرى (زمان أو مكان أو موضوع مختلف) لا تناسبها. 

أحسُّ أننا نحتفظ أحيانًا في أذهاننا بصورة مروضة للعالم؛ حيث العالم متوقَّع، ذو قواعد واضحة، لكن القواعد المسبقة التي تكون مفهومةً وواضحةً ولا لبْسَ فيها على المستوى النظري، قد تغدو غامضة، ومربكة، ومثارَ نزاعٍ في المواقف العملية. تفهُّمُك لذلك يعني أنك تحتاج التفكير/التساؤل في خطواتك المختلفة، في قراراتك ومقولاتك؛ لا يكفي اتِّبَاع تقاليد ما، دون مراجعة، بل من الضروري أن تتحوَّلَ الحياةُ نفسها إلى حالة من الإبداع الفني، يصبح فيها القرارُ، ودوافعُه، والتغيُّرُ الذي يمثِّله، وكيفيةُ اتخاذه ضربةً من ضربات فرشاة حياتك في هذه الدنيا.
_______________________
سبق نشر هذا المقال في موقع هنداوي، وفي كتاب "الفأر في المتاهة" عام 2016.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

ألبرت أينشتاين وميليفا ماريتش: قصة حب (اقتباس)

قصائد من الشعر الأفريقي المعاصر