الإيروسية والشعر




بقلم: أوكتافيوباث
ترجمة: المهدي اخريف

قال رامبو: لقد رأيت أحيانًا ما توهم الإنسان أنه رآه. انصهار رؤية وظن. في اقتران هاتين الكلمتين يوجد سر الشعر وسر شهاداته: فذلك الذي تعرضه لنا القصيدة لا نراه بأعيننا التي من لحم بل بأعين الروح. الشعر يجعلنا نلمس ما لا يلمس ونسمعُ دوار السكون مغطيًا مشهدًا دمره السهاد. تكشف لنا الشهادة الشعرية عالمًا آخر داخل هذا العالم، العالم الآخر الذي هو العالم. والحواس بدون أن تفقد قدرتها، تتحول إلى خوادم طيعات للمخيلة فتجعلنا نسمع ما لا يسمع ونرى ما لا يدرك بالحس. أوليس هذا، علاوة على ما تبقى، هو ما يحدث في الحلم وفي لحظة اللقاء الإيروتيكي؟ نحن نعانق أشباحًا، سواء عندما نحلم أو في لحظة المضاجعة. لشريكنا جسد ووجه واسم، لكن، وبالضبط في لحظة العناق الأشد قوة، سرعان ما تتبدد حقيقته الواقعية إلى شلال من الإحساسات التي تؤول بدورها إلى التبدد. ثمة سؤال يطرحه المحبون جميعًا وفيه يتكثف السر الإيروتيكي: من أنت؟ سؤال ليس له جواب ... هي الحواس من هذا العالم وليست منه. لأجلها يخط الشعر جسرًا بين الرؤية والظن. عبر ذلك الجسد تكتسب المخيلة جسدًا والأجساد تغدو صورًا (تخيلات). 

العلاقة بين الإيروسية والشعر هي من مستوى يمكن معه القول دون أي تعسف، بأن الأولى شعر جسدي وأن الثاني إيروتيكا لفظية. كلاهما مكون من تعارض تكاملي. إن اللغة – وهي صوت يبث معارفيًا، وخط مادي ينم على أفكار لا مادية- قادرة على تسمية أكثر الأشياء إنفلاتًا وتلاشيًا: أعني الإحساس؛ والإيروسية، من جهتها، ليست جنسًا حيوانيًا بحتًا بل هي طقس وتمثيل. الإيروسية هي الجنس محولًا إلى استعارة. والمخيلة هي الوسيط الذي يحرك الفعل الإيروتيكي والشعري معًا، هي القوة التي تحول الجنس إلى طقس وشعيره، واللغة إلى إيقاع واستعارة. الصورة الشعرية هي عناق لوقائع متعارضة والقافية هي جماع أصوات؛ الشعر يضفي الإيروتيكية على اللغة والعالم معًا لأنه هو نفسه ضرب من الإيروسية في طريقة اشتغاله. والإيروسية بالطريقة نفسها هي استعارة للجنس الحيواني. ما الذي تقوله تلك الاستعارة؛ إنها تشير، مثل كل الاستعارات، إلى شيء ما يقع أبعد من الواقع الذي تؤول إليه. شيء جديد ومختلف عن الألفاظ التي تكونها. إذا كان غونغورا قد قال "ثلج أرجواني يتهاطل"، فهو ابتكر أو اكتشف واقعًا آخر ليس دمًا ولا ثلجًا وإن كان مكونًا من كليهما. نفس الشيء مع الإيروسية: فهي تقول أو هي ذاتها بالأحرى، شيء مختلف عن الفعل الجنسي المحض. 

بالرغم من كثرة طرق المضاجعة فالفعل الجنسي دائمًا يقول الشيء نفسه: يقول التناسل. أما الإيروسية فهي الجنس في لحظة فعل لكنها، طالما هي تحرفه وتبطله، تؤجل الغاية من الفعل الجنسي. في الجنس تخدم اللذة الإنجاب، لأي الطقوس الإيروتيكية تعتبر اللذة غاية في حد ذاتها أو لها غاية مختلفة عن التناسل ...

علاقة الشعر باللغة هي علاقة مماثلة لتلك القائمة بين الإيروسية والجنس. أيضًا في الشعر –الذي هو تبلر حرفي- نجد اللغة تزيغ عن هدفها الطبيعي: التواصل. النظام الخطي هو ميزة أساسية تميز اللغة، فالكلمات تترابط واحدة تلو الأخرى على نحو يغدو معه النطق (التلفظ) شبيها بوريد ماء سيال. في الشعر، تثنى الخطية، ترتد إلى خطاها السابقة، تتلوى: الخط المستقيم يتخلى عن نموذجيته لفائدة الدائرة والخط الحلزوني...

إزاء القصائد الهرمسية نتسائل متحيرين: ما الذي تقوله؛ بقرائتنا لقصائد أكثر بساطة، تختفي حيرتنا، لا دهشتنا: هل اللغة الصافية تلك –صفاء الماء والهواء- هي نفس اللغة التي تكتب بها الصحف وكتب السوسيولوجيا؛ فيما بعد نكتشف، بعد أن نتجاوز الدهشة لا الافتتان، أن القصيدة تقدم لنا نوعًا آخر من الاتصال (التواصل)، محكومًا بقوانين مغايرة لتلك المتمثلة في تبادل الأخبار والمعلومات. لغة القصيدة هي لغة كل يوم، وهي في الآن نفسه لغة تقول أشياء مختلفة عن تلك التي نقولها جميعًا. وهذا هو سبب الارتياب الذي ميز نظرة جميع الكنائس إلى الشعر الصوفي. فسان خوان دي لاكروث لم يرغب في أن يقول أي شيء مخالف لتعاليم الكنيسة؛ ومع ذلك فقصائده عبرت، بدون أن يريد ذلك، عن أشياء أخرى. بالإمكان مضاعفة الأمثلة. إن خطورة الشعر تلازمه في صميم ممارسته وهي ثابته في كل العصور ولدى كل الشعراء. هناك دائمًا مسافة ما، بين القول الاجتماعي والقول الشعري: الشعر هو "الصوت الآخر" كما قلت في كتابة أخرى. لهذا فإن توافقه مع مظاهر الإيروسية البيضاء والسوداء التي أشرت إليها فيما سبق، هو توافق طبيعي ومشوش. الشعر والإيروسية معًا يولدان من الحواس لكنهما لا يقفان عندها. لدى تمددها يخترعان أشكالًا تخيلية: قصائد وطقوسًا.

[...]

بإمكاننا بعد رسمنا لحدود الجنس مرة واحدة، وبكيفية مجملة وفظة، أن نضع خطًا فاصلًا بينه وبين الإيروسية، خطًا ملتويًا ومنتهكًا مرارًا سواء من قبل الغارة العنيفة للغريزة الجنسية أو من هجمات الفانتازيا الإيروتيكية. إن الإيروسية مقصورة قبل كل شيء على الإنسان وحده: جنس مؤمم ومحول من لدن التخيل وإرادة البشر. السمة الأولى التي تميز الإيروسية عن الجنس تتمثل في التنوع اللانهائي للأوضاع والطرائق التي تظهر بها في جميع العصور وجميع المناطق. الإيروسية ابتكار وتنوع مستمر؛ أما الجنس فدائمًا هو نفسه. بطل الفعل الإيروتيكي هو الجنس أو "الأجناس" بالأحرى. فالتعدد ضروري، إذ حتى في المتع الموصوفة بالفردية تبتكر الرغبة الجنسية دائمًا شريكًا متخيلًا ... أو شركاء عديدين. في كل لقاء إيروتيكي توجد شخصية لا مرئية ونشطة على الدوام: المخيلة، الرغبة. ودائمًا في الفعل الإيروتيكي يشترك شخصان أو أكثر. لا يوجد البتة شخص واحد. هنا يبرز الفارق الأول بين الجنس عند الحيوان وبين الإيروسية الإنسانية التي يمكن فيها لمشارك واحد أو أكثر أن يكون كائنًا متخيلًا. فالرجال والنساء هم وحدهم الذين يجامعون الشياطين: الإيروسية الشيطانية.

مقطع من كتاب: 
اللهب المزدوج 
أوكتافيوباث
ترجمة المهدي اخريف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات