ما يمكن للرواية وحدها أن تكشفه (مقتطفات)




ميلان كونديرا
ترجمة: بدر الدين عرودكي

تصاحب الرواية الإنسان على الدوام وبإخلاص منذ بداية الأزمنة الحديثة. لقد سيطر "هوى المعرفة" (هذا الهوى الذي يعتبره هوسرل جوهر الروحانية الأوروبية) آنئذ على الإنسان كيما يدرس الحياة المحسوسة للإنسان ويحميه ضد "نسيان الكائن"، حتى يضع "عالم الحياة" تحت إنارة مستمرة. بهذا المعنى إنما أفهم وأشارك عناد هرمان بروخ عندما كان يكرر بلا هوادة: اكتشاف ما يمكن للرواية وحدها أن تكشفه، هو ذا ما يؤلف مبرر وجود الرواية. إن الرواية التي لا تكشف جزءًا من الوجود لا يزال مجهولا هي رواية لا أخلاقية. إن المعرفة هي أخلاقية الرواية الوحيدة. 

*** *** ***

إن روح الرواية هي روح التعقيد. كل رواية تقول للقارئ: "إن الأشياء أكثر تعقيدًا مما تظن". إنها الحقيقة الأبدية للرواية، لكنها لا تُسمِعُ نفسها إلا بصعوبة في لغط الأجوبة البسيطة والسريعة التي تسبق السؤال وتستبعده. في نظر روح عصرنا: إما أن تكون أنا كارنينا على حق، أو أن يكون زوجها على حق، وتبدو حكمة سرفانتس القديمة التي تحدثنا عن صعوبة المعرفة وعن الحقيقة التي لا تدرك زائدة عن اللزوم ولا فائدة منها.


إن روح الرواية هي روح الاستمرار: كل مبدَع هو جواب عن المبدَعات السابقة، كل مبدع ينطوي على التجربة السابقة على الرواية، لكن روح عصرنا مثبت على الأحداث اليومية التي هي من الاتساع والضخامة بحيث تدفع ماضي أفقنا وتقلص الزمان إلى الهنيهة الراهنة وحدها. إن الرواية وقد تضمنتها المنظومة لم تعد مبدَعا (أي شيء مآلة الاستمرار، وربط الماضي بالمستقبل)، وإنما هي حدث من الأحداث اليومية، وإشارة بلا غد.

*** *** ***

ميلان كونديرا: يتطلب إدراك تعقد الوجود في العالم الحديث، في ما يبدو لي، تقنية الإيجاز والتكثيف، وإلا وقعت في فخ الإطالة إلى ما لا نهاية. إن الرجل الذي لا خصال له، هي إحدى روايتين أو ثلاث روايات أحبها. لكن لا تطلب مني أن أعجب بامتدادها الهائل وغير الكامل. تخيل قصرًا هو من الضخامة بحيث لا يسعك أن تحيط به بنظرة واحدة. تخيل رباعية موسيقية تدوم تسع ساعات. ثمة حدود أنثروبولوجية لا يمكن تجاوزها، كحدود الذاكرة على سبيل المثال؛ إذ يتوجب أن تكون في نهاية قراءتك قادرًا على تذكر البداية، وإلا تغدو الرواية بلا شكل، فضلًا عن أن "وضوحها المعماري" مغطى بالضباب. 


*** *** ***

ميلان كونديرا: إن البوليفونية الموسيقية هي تطوير متزامن لصوتين أو لعدة أصوات (خطوط لحنية) تحتفظ، رغم ارتباطها على نحو تام، باستقلال نسبي. البوليفونية الروائية؟ لنقل قبل كل شيء ما الذي يقف على النقيض منها: التأليف وفق خط واحد، في حين أن الرواية قد حاولت منذ بداية تاريخها التخلص من الخط الواحد وفتح ثغرات في القص المستمر لحكاية ما. يقصُّ سرفانتس سفر دون كيشوت وفق خط مستمر واحد، لكن دون كيشوت يلتقي خلال سفره بشخصيات أخرى تقص كل واحدة منها حكايتها الخاصة بها. هناك أربع قصص في الجزء الأول، أربع ثغرات تسمح بالخروج من نسيج الخط الواحد للرواية.


ك. س: ولكن ذلك ليس من البوليفونية في شيء!

ميلان كونديرا: لأنه لا وجود هنا للتزامن، ...
[...]

وقد أطلقت على هذا النوع من التأليف تسمية مستعارة من الموسيقى: البوليفونية. وسترى أنه ليس من اللافائدة بمكان أن تقارن الرواية بالموسيقى. الواقع أن واحدًا من المبادئ الأساسية لكبار البوليفونيين يقوم على تساوي الأصوات: يجب ألا تكون ثمة سيادة لأي صوت، كما يجب ألا يقوم أي صوت بمجرد دور المرافقة. في حين يبدو لي أن عيب الرواية الثالثة من "السائرون نيامًا" يتمثل في أن "الأصوات" الخمسة ليست متساوية. إن الخط رقم واحد (الحكاية الروائية عن إش وهوجنو) يحتل كميًا مكانًا يفوق في مساحته مكان الخطوط الأخرى فضلا عن أنه مفضل نوعيًا من حيث أنه مرتبط ، بواسطة إش وبازينو، بالروايتين السابقتين؛ فهو يجذب الانتباه أكثر، ويوشك أن يجعل من دور الخطوط الأربعة الأخرى مجرد دور مرافقة؟ شيء آخر: إذا كان لا يمكن للفوغ لدى باخ أن يتخلى عن أي صوت من أصواته، فإن بوسعنا بالمقابل، أن نتخيل قصة حنة ويندلينج أو المقالة عن انحطاط القيم بوصفهما نصين مستقلين لا يمكن لغيابهما أن يفقد الرواية معناها ولا وضوحها. في حين أن الشرطين اللذين لا غنى عنهما للتضاد الروائي في نظري هما: 1- تساوي الخطوط المتتالية؛ 2- عدم إمكان تقسيم المجموع. 

*** *** ***

ميلان كونديرا: أولا أمر بدهي: ما إن يدخل التأمل في جسم الرواية حتى يغير من جوهره. خارج الرواية نجد أنفسنا في مجال التأكيدات: كل امرئ واثق من كلامه ثقة مطلقة، سواء كان سياسيًا أو فيلسوفًا أو حارسًا. أما على أراضي الرواية فلا شيء ثابت: إنها أراضي اللعب والفرضيات. التأمل الروائي هو في جوهره إذن تأمل تساؤلي فرضي. 

ك. س.: ولكن لماذا يتوجب على الروائي أن يحرم نفسه من حق التعبير في روايته عن فلسفته بشكل مباشر وبصيغة التوكيد؟ 

ميلان كونديرا: ثمة فارق أساسي بين طريقة تفكير الفيلسوف وطريقة تفكير الروائي. غالبًا ما نتحدث عن فلسفة تشيخوف، أو كافكا، أو موزيل، ... إلخ. ولكن حاول أن تستخلص فلسفة متماسكة من كتاباتهم! حتى عندما يعبرون عن أفكارهم بشكل مباشر كما هو الأمر في مذكراتهم مثلا، فإن هذه النصوص هي بالأحرى تمارين في التأمل وألاعيب مفارقات وارتجال أكثر منها تأكيد فكرة ما. 

ك. س.: لكن دستوفيسكي يستخدم في يوميات كاتب صيغة التأكيد على نحو كامل. 

ميلان كونديرا: لكن عظمة تفكير دستويفسكي لا تكمن هنا. إنه ليس مفكرًا كبيرًا إلا بوصفه روائيًا فحسب. وهذا يعني أنه يبدع في شخصياته عوالم عقلية غنية وأصيلة بشكل خارق. يحلو لنا أن نبحث في شخصياته عن أفكاره. مثلا في شخصية شاتوف. لكن دستويفسكي اتخذ كافة الاحتياطات. فمنذ ظهوره للمرة الأولى على مسرح الرواية يوصف شاتوف على نحو مؤلم: "إن شاتوف واحدٌ من أولئك الروس المثاليين الذين متى أشرقت في نفوسهم فكرة قوية كبيرة، بهروا بها. وتسلطت عليهم تسلطًا تامًا قد يدوم في بعض الأحيان إلى الأبد، فلا يصلون يومًا إلى السيطرة على هذه الفكرة التي أصبحوا يعتنقونها اعتناقًا عنيفًا. وتنقضي حياتهم كلها بعد ذلك في ما يشبه التشنجات الكبرى تحت وطأة تلك الصخرة التي سقطت عليهم ذات يوم فحطمتهم نصف تحطيم".إذن حتى لو كان دستويفسكي قد عرض في شاتوف أفكاره الخاصة، فإنه سرعان ما جعل من هذه الأفكار نسبية؛ ذلك أن القاعدة بالنسبة إلى دستويفسكي تبقى هي هي: ما إن يصير التأمل داخل الرواية حتى يغير من جوهره، والفكرة الدوجماتية تصير فيها فكرة فرضية. وهذا ما يفلت من أيدي الفلاسفة عندما يحاولون كتابة الرواية. فيما عدا فيلسوف واحد هو ديدرو، في رائعته جاك القدري! فبعد أن عبر حدود الرواية، تحول الموسوعي الجاد إلى مفكر لعبي: فليس ثمة في روايته أية جملة جادة؛ كل شيء فيها لعب. ولهذا لم تقدر هذه الرواية حق قدرها في فرنسا بكل أسف. والحقيقة أن هذا الكتاب يجمع كل ما فقدته فرنسا وترفض استعادته، فنحن نفضل اليوم الأفكار عن المبدعات. في حين يستحيل ترجمة جاك القدري إلى لغة الأفكار. 

ك. س.: في المزحة، يعرض ياروسلاف نظرية في علم الموسيقى. طابع هذا التأمل الفرضي واضح إذن، لكننا نجد في روايتك أيضًا مقاطع يكون فيها المتكلم أنت مباشرة. 

ميلان كونديرا: حتى لو كان المتحدث هو أنا، فإن تفكيري يرتبط بشخصية ما في الرواية. أريد أن أفكر بمواقفها، بطريقتها في رؤية الأشياء، كما لو أنني في مكانها، وعلى نحو أعمق مما تفعله هي بالذات. يبدأ الجزء الثاني من خفة الكائن الهشة بتأمل عميق حول العلاقات بين الجسم والنفس. نعم، إنه المؤلف الذي يتحدث، لكن كل ما يقوله مع ذلك لا يصلح إلا ضمن المجال المغناطيسي لشخصية محددة هي تيريزا. إنها طريقة تيريزا ( ولو لم تكن هي التي صاغها على هذا النحو) في رؤية الأشياء. 

ك. س: لكن تأملاتك لا ترتبط غالبًا بأي شخصية. كالتأملات الموسيقية في "كتاب الضحك والنسيان"، أو نظراتك في موت ابن ستالين في "خفة الكائن الهشة". 

ميلان كونديرا: صحيح أحب أن أتدخل من وقت إلى آخر بشكل مباشر، بوصفي مؤلفًا أو بصفتي الشخصية. وفي هذه الحالة كل شيء يتوقف على النبرة. منذ الكلمة الأولى تجد لفكرتي نبرة لعبية ساخرة أو مثيرة أو تجريبية أو تساؤلية. كل الجزء السادس من "خفة الكائن الهشة" (المسيرة الكبرى) عبارة عن مقالة حول الكيتش أطروحتها الأساسية: "الكيتش هو نفي مطلق للخراء". [...] فوراءها كثير من التفكير والتجارب والدراسات بل وحتى من الحماس، لكن اللهجة ليست جدية أبدًا، بل هي مثيرة. فضلا عن أنه لا يمكن التفكير أبدًا بهذه المقالة خارج الرواية، وهذا ما أسميه ب"المقالة الروائية على نحو خاص".

من: فن الرواية
 من كتاب: 
ثلاثية حول الرواية
ميلان كونديرا
ترجمة: بدر الدين عرودكي
المشروع القومي للترجمة



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات