مصر وبابل واليونان: مقاطع من المجلد الأول من كتاب "تاريخ العلم"


مقاطع من كتاب:
تاريخ العلم
جورج سارتون
ترجمة: محمد خلف الله، وآخرين.
الطبعة العربية الأولى: 1957
القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013
بتاح حتب



(من الفصل الثاني: مصر)
 

بتاح حتب:
"لا تكن متعجرفًا بسبب علمك، ولا تنتفخ أوداجك لأنك رجل عالم، استشر الجاهل كما تستشيرُ العالم، لأن حدود الفن لا يمكن الوصول إليها، وليس هناك فنان كامل في براعته. الكلام الطيب أندر من الحجر الأخضر الثمين، ومع ذلك فإنه يوجد أحيانًا في حديث الجواري العاملات في طحن الغلال بين أحجار الرحى"


(من: الفصل الثالث: بلاد ما بين النهرين)

[العرافة]

ومع أن الآلهة هي التي تستجلب المرض، فمن الممكن كذلك أن يصدر المرض عن الشياطين أو بسبب "العين الشريرة" أو "بالمغناطيسية الحيوانية" التي يتصف بها بعض الناس الآخرين. ومع أن الإيمان بقوة الشياطين أو النسوة الساحرات يناقض القوة الإلهية، فالمعتقدات الدينية القريبة من الأوهام والخرافات تكون متناقضة بوجه الضرورة – وليس من شأننا هنا أن نظهر هذه المتناقضات.

وإذا سلمنا بالأصل الإلهي أو الشيطاني للأمراض، فلا ينتظر أن نجد طرق تشخيص الأمراض وتعيينها مستندة على أسس فسيولوجية، بل المنطق أن تكون مؤسسة على العرافة. وسار البابليون على هذا النحو، ولم يكونوا وحدهم كذلك، بل أسلافهم السومريون الأولون أيضًا، إذ اشتهر أحد ملوك ما قبل الطوفان واسمه "إنميدرآنكي" باكتشاف أصول الكهانة ومبادئها (أي اكتشاف الوسائل التي تساعد على استنتاج مقاصد الآلهة وإرادتها من المشاهدات المختلفة). وفي القرن الثامن والعشرين ق. م. اضطر "أوكاجينا" ملك الجيش إلى عقوبة العرافين الذين يتقاضون أجورًا باهظة، وفي هذين المثلين المتباعدين ما يدل على أن العرافة كانت متمكنة متوطدة في تلك الأزمان القديمة من تاريخ بلاد ما بين النهرين. 
   
وتنوعت طرق العرافة، فكان لكل ظاهرة في الطبيعة ولكل حادثة تفسير تكهني، واستخدم العرافون الذين ذكرناهم الزيت، فحين يسكب الزيت فوق الماء، فإن الأشكال التي يتخذها في انتشاره واختلاطه بالماء تدل على أشكال الأشياء التي ستقع. وربما اعتمد العراف على طير الطيور، أو استند إلى تعبير الأحلام. وكانت أحوال الولادات تلاحظ بدقة، ولا سيما الحالات الشاذة أو حالات المولود الممسوخ. ولا يزال شغف الناس بتعبير الأحلام وتطلعهم إلى أخبار المسوخ (كالعجول ذوات الأرجل الست وذوات الرأسين إلخ) خير شاهد على ذلك الاهتمام منذ القدم، كما أن كتب تعبير الأحلام تحتفظ بأساليب واغلة في القدم. ورصد العرافون البابليون النجوم، لكن التنجيم الذي انتقل إلينا بوساطة الرومان كان اختراعًا من زمن متأخر، كما يشير إلى ذلك اسمه المعروف به، أي "التنجيم الكلداني" أما طريقة العرافة البابلية الغالبة، وهي أهم الطرق لمؤرخي العلوم، فهي فحص الكبد أي "عرافة الكبد" وسنأتي إليها عاجلا. 
  
وسيطرت طرق العرافة على الحياة البابلية، وفي وسعنا أن نفترض أنها اختراعات بابلية (أوبالأحرى سومرية)، مع العلم بأن الإيمان بالعرافة لم يقتصر عليهم، إذ نجده في العالم القديم، وللقارئ الراغب في بحث العرافة في العصر الإغريقي- الروماني- أن يقرأ تأليف "بوشيه لكريك" (1842-1923) الذي عنوانه: "تاريخ العرافة في العصور القديمة"، أو كتاب "شيشرون" الذي عنوانه "العرافة". ولا تزال هذه الحال بين طغام الناس في العصر الحاضر. وإذا سلمنا بمقدمات العرافة وأسسها، فأساليبها لا يمكن أن تختلف اختلافًا أساسيًا من أمة إلى أمة أخرى، وعلى هذا فالمقارنات التي أجريت بين طرق العرافة – البابلية والصينية مثلا لا تبرهن دائمًا على أن الصينيين اقتبسوا من البابليين. حتى لو اتفقت بينهما تفصيلات متعددة. 

وقبل أن ننظر في طريقة العرافة بفحص الأحشاء، وبوجه أخص في طريقة العرافة بفحص الكبد، علينا أن نسأل أولا عن مقدار ما عرف البابليون من التشريح، الجواب فيما يبدو لنا هو أن معرفتهم كانت بدائية بل أكثر بدائية من معرفة المصريين، وجاءت هذه المعرفة من تقطيع الحيوانات التي تذبح لترضية الآلهة أو لإطعام الناس، وفيما يخص معرفتهم بالتشريح البشري، فجاءت معرفتهم من حوادث الأفراد في الحرب والسلم. والأدلة الوحيدة على معرفتهم المفصلة هي قوائم أسماء الأعضاء في شروح معاجمهم، وهذه القوائم ليست بالغة الطول. وأهم الأعضاء الخاصة بالعرافة عند الرومان ستة أعضاء وهي الطحال، والمعدة، والكليتان والقلب والرئتان، والكبد، والكبد هي أهمها جميعًا،  وربما ترجع الأهمية الكبيرة التي صارت للكبد إلى اعتقادات تقليدية ليست من التشريح في شيء. لكن هذا التفسير مشكوك فيه، إذ التفسير التشريحي المحض هو الذي يبدو مقبولا أكثر. ذلك أن الرومان اهتموا كالبابليين اهتمامًا كبيرًا بالكبد. ولنفس الأسباب، فحين يفقد المرء دمًا يغمى عليه، وإذا لم يوقف مسيل الدم فإنه يموت حالا. وهكذا من السهل أن يخص الدم بالأهمية على أنه سائل الحياة، وحينما تفتح جثة، فالكبد تبدو أوضح عضو فيها، كما أنها عضو الدم، وسدس دم الجسم الإنساني موجود فيها، ولعل ذلك كان أمرًا طبيعيًا أن تعد الكبد عضو الحياة. وأدرك البابليون أيضًا أهمية القلب، ووصلوا بالتدريج إلى مرحلة اعتبروا فيها القلب مستودع الفهم، والكبد موضع العوطف والحياة نفسها. وفضلا عن ذلك فإن هيئة الكبد وانقسامها بالتشققات إلى خمسة فصوص هيأ الفرص الكثيرة الواسعة لأنواع العرافة بها. أما أنواع الكبد التي فحصوها – بالأحرى سألوها العرافة أو الفأل- فهي في الغالب أكباد الخراف أو الماعز. وسمى العرافون الأقسام المتنوعة من الكبد بأسماء خاصة، لكن لا يوجد مبرر لأن نفحص بالتفاصيل تلك التخيلات الخاصة بعرافة فحص الكبد. هذا على فرض أن علماء الآشوريات متأكدون من المعنى الدقيق لكل تسمية من تلك التسميات. ومن الممكن للعرافين المختصين بفحص الكبد أو فحص الأحشاء، أن يقفوا ويتعرفوا على غرائب الأكباد وخواصها، غير أن ذلك لم يجعلهم عارفين بأصول التشريح. 

والعرافة البابلية بفحص الكبد واردة في عدد كبير من النصوص (نشر منه نحو 640 نصًا عام 1938)، ومما يدعو إلى الالتفات أنها ممثلة بصور لنماذج كثيرة للكبد من الطين.

(من الفصل الرابع: مرحلة غامضة بين عصرين)

وشرح سير دارسي و. تومسون وهو العلامة الذي ترجم كتاب أرسطو في تاريخ الحيوان أن كثيرًا من "الأخطاء الفاحشة" التي زل فيها أرسطو، وهو الأستاذ الناقد، لابد أن تكون قديمة جدًا بحيث تأصلت عروقها في الجانب غير الواعي من شعوره إلى حد أنه لم يخطر له أن ينقدها. "فالحكايات المتعلقة بالماعز الذي يتنفس من أذنيه، والرخم [طائر] الذي يلقحه الريح، والنسر الذي يموت من الجوع، والوعل الذي يصاد بالموسيقى، والسمندر الذي يمشي في النار، ووحيد القرن، والحيوان المفترس الذي رأسه رأس إنسان" – هذه الحكايات لا تدهشنا عندما نجدها في الكتب التي تتحدث عن الحيوانات الحقيقية والخيالية في العصور الوسطى، وإن كنا نندهش دهشة كبيرة حين نجدها عند أرسطو. ويقول سير دارسي: "إن بعض هذه الحكايات جاءت من الشرق الأقصى عن طريق فارس، وبعضها ليس سوى إفصاح مكشوف أو رمزي عن أسرار الديانة المصرية القديمة". ومن السهل أن نعرف أن تصور الحيوان المفترس الذي رأسه رأس إنسان، يرجع إلى أصل فارسي، لأن أرسطو أخذ الحكاية المتعلقة به عن كتيسياس (القرن الخامس قبل الميلاد) ... وبعض الحكايات الأخرى يمكن أن يرد إلى مصادر مصرية وأخرى شرقية، وقد لا يرد. ورواية مثل تلك الحكايات يمكن أن تكون شفاهية خالصة، وليس في هذا ما يضعفها، وإن لم تترك آثارًا، وكيفما كان الأمر فإن من العسير أن نتصور أن أرسطو هو الذي اخترعها، ويكفيه من الشين أنه روجها وجعل لها ضربًا من القيمة العلمية. 

ويحكي أرسطو حكاية أخرى ردها البعض إلى مصدر مصري على نحو لم يكن متوقعًا، إذ تكلم عن قنفذ بحري يؤكل، وعن أن بيضه ينمو نموًا كبيرًا عندما يكون القمر بدرًا. وكان هذا الكلام، كما هو اليوم، جزءًا من معارف صيادي الأسماك، وحاول أرسطو أن يجعله معرفة علمية. وفي سنة 1924 بحث هـ. مونروفوكس أحد علماء الحيوان الإنجليز هذه المسائل وأثبت أن قنافذ البحر المتوسط "لا تنمو ولا تنقص" مع البدر، لكن نظائرها في البحر الأحمر تبيض على نحو مطرد عند كل بدر أثناء صيف الولادة. بعبارة أخرى أن الحكاية صحيحة فيما يعلق بالبحر الأحمر، وخطأ فيما يتعلق بالبحر المتوسط. وأنها انتقلت من معارف المصريين الشعبية إلى معارف الإيجيين. والأغلب أن ذلك تم في عصور قديمة جدًا، ثم بقيت هناك دون أن يصححها أحد حتى أيامنا.
 
( من الفصل الخامس: فجر الثقافة اليونانية )

أحيطت شخصية هوميروس بالخزعبلات من البداية تقريبًا، فلم ينكر اليونانيون الأولون وجوده، ولكن سبع مدن ادعت بنوته، وسبع مدن مختلفة كثير جدًا لمسقط رأس أي إنسان، وإن تكن جد قليلة لبطل خرافي. وبعد أن أصبحت أشعار هوميروس على مر الأيام أساسًا للتعليم حيثما كانت اللغة اليونانية هي السائدة بين الناس كثرت الخرافات حول ناظمها، وتعددت المدن التي ولد فيها. مثال ذلك: أن هيليودوروس من مدينة حمص (إيميسا) كتب في شبابه (حوالي 220-240 ق.م.) قصة شهيرة زعم فيها أن هوميروس ولد في مدينة طيبة بمصر الفرعونية، وأنه ابن الإله هيرميس (=توت) من زوجهة كاهن مصري. ويتضح لنا من أوراق البردي أن هوميروس كان معروفًا جيد المعرفة في الأوساط اليونانية في مصر، ومن المحتمل أن هيليودوروس الحمصي أخذ قصته عن هوميروس من مصادر مصرية. والواقع أن تصديق كاتب يوناني أصبح فيما بعد أسقفًا في تساليا لمثل هذه الخرافة يغني عن مجلدات في شرح مدى أثر مصر في الفكر اليوناني، لأنه إذا كان اليونانيون في القرن الثالث قبل الميلاد لم يجدوا في نفوسهم حرجًا أن يصدقوا أن شاعرهم هوميروس معلم بلاد اليونان، كان مصريًا، فلا بد أنهم لم يتحرجوا أن يعدوا مصر مهدًا لثقافتهم.
 
( من الفصل الثامن: فيثاغورث)

ولعل ألقاميون كان أول من أدخل نظرية نفسانية أخرى اهتم بها الفيثاغوريون المتأخرون اهتمامًا متزايدًا. وهي أن الأنفس تشبه الأجرام السماوية وتتحرك حركة أزلية في دوائر، فهناك تعادل بين الدوران والخلود. ومن ناحية أخرى يفنى الناس لعدم استطاعتهم الرجوع إلى أصل وجودهم لأن الحياة ليست دائرة بل خطًا منحنيًا غير مغلق، ويمكن أن نفسر قوله بأن الحياة عملية تجري إلى الفناء. أما النجوم والأنفس فلا تسير إلى الفناء بل دورانًا أزليًا. 
 _________________________

اقرأ أيضًا:

مقاطع من مقدمة المجلد الأول من كتاب "تاريخ العلم"

فجر العلم (مقاطع)

مقاطع عن فيثاغورث

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات