مقاطع من كتاب ما يشبه السيرة الذاتية لأكيرا كوروساوا

المخرج الياباني المعروف: أكيرا كوروساوا


(عرق الضفدع)

في سنوان الحرب، عندما كانت الشوارع تغص بالباعة المتجولين، سرت مع هؤلاء حكاية مرهم الضفدع لعلاج الجروح والحروق.
وسمعت أن هذا المرهم السحري كانوا يحضرونه بالطريقة الآتية:
بعد أن يصطادوا الضفدع، يضعونه في صندوق صغير، تغطي جدرانه المرايا. الضفدع المسكين المرعوب لتوه، يرى صورته منعكسه على هذه المرايا، فيبدأ بإفراز مادة دهنية شبيهة بالعرق.
يجمعون فيما بعد هذا "العرق الإجباري" عن جلده بكشطه ويغلونه لبضعة أيام. وهكذا يستخرجون مرهمًا ثمينًا، لا تجود به الأوقات دائمًا.

أعتقد أن تكتب عن نفسك، تمامًا، هذا يعني أن تجلس بين أربعة جدران مغطاه بالمرايا وأن تحدق فيها. تريد أو لا تريد، تجلس وتراقب نفسك من زوايا مختلف فتحس أنك مختلف بعض الشيء عن ذاتك.

هذا ما أحس به الآن وما أحسست به في الماضي البعيد. ورغم أني لست ضفدعًا، فإنني أشعر كيف بدأت أتعرق لتوي.

ولهذا أجدني أضع مقدمة لكتاب يشبه سيرة حياة أو اعترافات عابرة بكلمة أدق.
 
 *** *** ***
جلست في غرفة الصف، دون أن أشارك في أي شيء، واكتفيت بالتحديق في الباب الزجاجي الذي كنت أرى من خلاله الخادم ينتظر خروجي لينقلني إلى البيت.

لا أعتقد أنني كنت متخلفًا عقليًا ولكنني نضجت ببطء. لم أكن أفهم شيئًا من شروحات المدرس .. وكنت أستسلم لخيالات وفانتازيا من كل نوع. وفي المحصلة وضعوني في مقعد وحدي بعيدًا عن الآخرين وأعدوا لي برنامجًا تدريسيًا خاصًا.

أما المدرس"المسكين" فقد اعتاد وهو يعطي دروسه أن ينظر إليَّ بقحةِ نظرات ذات مغزي ويقول:


لا أعلم إذا كان كوروساوا سيفهم هذا .. لكن .. أو لنشرح مرة أخرى.



حياة المدرسة كانت جحيمًا.

وأعتقد أنه من الخطيئة إرسال الأطفال إلى المدرسة وهم يعانون من نقص ما في النمو أو في القدرة على الاستيعاب لمجرد أن الأطفال الذين يتعدون سنًا معينة ينبغي لهم أن يكونوا في صف واحد.

ثمة فوارق ينبغي مراعاتها من طفل إلى طفل .. فثمة أطفال في الخامسة من أعمارهم أقدر على الاستيعاب من أطفال في السابعة والعكس. لا يمكن بقرار أن يحدد مستوى التطور الذي ينبغي أن يصل إليه الطفل في إطار سنه، ولربما كنت أقلق كثيرًا جراء هذه التساؤلات، ولكنني في عامي السابع أحسست أن المدرسة زنزانة وأنني فيها رغمًا عني.

*** *** ***

وأعتقد أن زملائي الجدد كانوا مندهشين من هيئتي. وتصوروا كيف يمكن أن يكون عليه الحال وسطهم، هم الذين تربوا على الطريقة اليابانية في أدق تفاصيلها.

فجأة، يظهر مخلوق صغير، شعره طويل وملابسه أوروبية، بنطال حتى الركبة وجوارب حمراء قصيرة، ووجه رقيق أشبه بوجه فتاة. كنت شيئًا مدهشًا آنئذٍ، وقد أصبحت أضحوكة لكل التلاميذ. شدوا لي شعري، وخطفوا حقيبتي عن ظهري، وانقضوا على بزتي الأنيقة يدعكونها بأيديهم … ودون هذه الأشياء أنا بكَّاء بطبعي، وهنا ربحت لقب برغوث للمرة الأولى في حياتي، أصبح لقبًا ملازمًا لي لفترة طويلة وقد عثر عليه الأطفال في أغنية كنا نغنيها في تلك الأوقات:

“برغوث جاء بيننا

ولا يفعل شيئًا سوى البكاء.

يذرف الدموع بسخاء،

الدموع الكبيرة مثل حب البونبون".

بصراحة أقول إنني حتى يومي هذا لا أجد متعة في الاستماع إلى أي أغنية عن "البونبون".

*** *** 

لكن المعلم "تاتشيكافا لم يكن تقليديًا، بل طلب إلينا أن يرسم كل ما يريد. كان الجميع قد أعد سلفًا الأوراق والأقلام الملونة .. وبدأوا وبدأت أنا.

نسيت ما الذي رسمته عندئذٍ ولكنني أذكر أنني اجتهدت، ضغطت على الأقلام لفرط تأثري حتى تحطمت واحدة بعد الأخرى واستخدمت أصابعي حتى انتهت اللوحة.

“تاتشيكافا" جمع الأعمال كلها على اللوح الأسود وبدأنا معًا عملية تقويمها. كلٌ قال رأيه بصراحة وحرية وعندما جاء دور لوحتي، انفجر الصف في ضحك هيستيري، لكن المعلم قطع الضحك بنظرة لئيمة وامتدح لوحتي.لا أذكر ما قاله، ولكنني متأكد أنه أعار انتباهه للبقع الملونة وفي نهاية التقويم وضع ثلاث دوائر بالقلم الأحمر – أعلى علامة في الصف.

منذ ذلك اليوم رغم كراهيتي للمدرسة بدأت أنتظر دروس "تاشيكافا"، فدوائره الحمراء الثلاثة جعلتني أعشق مادة الرسم وبدأت أرسم دون انقطاع. رسمت على كل شيء حولي وكنت أحصل على ملاحظات إيجابية فقط وبدأت علاماتي بالمواد الأخرى ترتفع بدورها وهذا سبب لي دهشة كبيرة. وفي العام الذي ترك في "تاشيكافا" المدرسة كنت قد أصبحت عريفًا على الصف وحملت الشارة الذهبية. ولم أنس حادثة أخرى حصلت في ساعة الأشغال اليدوية. دخل "تاشيكافا" غرفة الصف ومعه لفة ورق كبيرة، افترشها على الأرض ورأينا فيها شيئًا يشبه خارطة جغرافية لمدينة.

قال لنا إن كل واحد فينا حر في أن يرسم ما يريد على هذه الخارطة. بدأنا العمل وولدت أفكار مختلفة، وولدت معها أجمل مدينة سحرية رأيتها، حيث رسم فيها كل طفل شيئًا من تصوراته عن هذا العالم. عندما انتهينا كانت وجوهنا قد احمرت من الارتعاشات الطفلية، وبفخر تأملنا مخلوقنا الجديد.

أذكر كيف عشت متيقظًا تلك اللحظة كما لو أنها البارحة.

مقاطع من كتاب "ما يشبه السيرة الذاتية" ل:أكيرا كوروساوا
ترجمة: فجر يعقوب
القاهرة: مكتبة الأسرة، 2013
_____________

تعليقات

  1. ألف ألف شكر على النقل المميز ، جعلني أقتني الكتاب
    :))

    ردحذف
    الردود
    1. وألف شكر ليك يا P A S H A، على المرور والتعليق، وسعيد إن المقتطفات عجبت... استمتع بالكتاب :)

      حذف
  2. المقال والمقتطفات من اجمل ما يكون... لا ادري لكن لا اجد اروع من بداية السيرة الذاتية هذه انها مميزة حتى وان لم اسمع عن الكاتب من قبل ..

    اختيار موفق ومدونة جميلة للغاية ..دمتم ..

    ردحذف
  3. الكاتب أكيرا كوروساوا هو مخرج ياباني مميز ...أنصح بشدة بمشاهدة أفلامه المختلفة
    http://www.imdb.com/name/nm0000041/
    له أفلام مميزة كثيرة منها:
    Seven Samurai (1954)
    Rashomon (1950)
    لو أنك مهتم بالتعرف عليه أنصحك بمشاهدة فيلم Dreams
    1990
    وهذا جزء من اندهاشي واعجابي ببعض المقاطع هنا ... فهذا المخرج الكبير صاحب الجماليات المبهرة هو نفسه من كان ينظر له في فترة ما على أنه غبي الفصل ... ولو شاهدت أفلامه ستتفهم بشكل أكبر دور مدرس الرسم هذا في حياته .. أشكرك بشدة على المرور وأتمنى أن تواصل المدونة إثارة إعجابك

    ردحذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

ألبرت أينشتاين وميليفا ماريتش: قصة حب (اقتباس)

قصائد من الشعر الأفريقي المعاصر