السواد

الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله

 (الفقرات الأولى من رواية "مجرد 2 فقط" لإبراهيم نصر الله )

لم يكن هناك أحدٌ حينَ وصلنا، أنا والآخر، لم يكن هناك أحدٌ ينتظرنا حين وصلنا، ولم يكن هناك أحدٌ ينتظرُ أحدًا حين وصل الجميع. كنا سنحتفل، أما الآخرون فلا، كانت خلفهم الحفلة، وكانوا هاربين من موتٍ ما، سمعنا عنه، رأيناه، لكننا لم نعرفه الآن. عرفناه دائمًا، هم، هم عرفوه الآن أكثر منا لأن كثيرين منهم ماتوا، أما نحن فلم يمت منا أحدٌ هذه المرة. نساء وأطفال لا أكثر، ولم يكن ثمة رجال.

.. كانت جوازات سفرهم في أيديهم، مغبرة من دروب الصحراء، ومسودة من سحب النفط المشتعلة، وكانوا يتلفتون خلفهم برعب، الأطفال بعيونهم الواسعة، بعيونهم التي اتسعت، انشغلوا بالحقائب التي تدور على حزام النقل في المطار، وفرحوا، لم أصدق أننا نستطيعُ النسيان إلى هذا الحد، قلتُ معجزة، ولم تصل البراءة بأحدهم أن يصرخ: أريدُ أبي..
غبارٌ رمليٌ مطفأ يتزاحم في مساماتهم، وآثار مبيت في العراء تقصفُ ملامحهم، وتبدد أعمارهم الحقيقية، ولكنهم انشغلوا، يشدون الحقائب من آذانها.

***

الأستاذ لم يكن يفعلُ ذلك، كان يضعُ حصوة صغيرة تحت شحمة آذاننا، ثمَّ يضغط، يضعُ قلمًا بين الأصابع، ثم يضغط، يمسكنا من جماجمنا ثم يضغط.
قلتُ للآخر: كيف كبرنا مع كل هذا الضغط، وكيف أصبحتُ طويلا..
قال: لا أدري، أنت الطويل.. إذن أنت الذي عليه أن يجيب. ولم أجب.

***

وقعت الحقائبُ. تكومت إلى جانبي الحزام، الحزام الذي واصل دورانه، لم يشكُ أحد، حتى أنا والآخر، النساءُ راقبن أطفالهن.. أطفال غيرهن، وربما أنا والآخر، ولم يكن فيهن قوة ليسألن: من أين أتى هذان اللذان لا يجللُ وجهيهما الرمل..وكن مجللات بالسواد.
قلتُ للآخر: من أين يأتي السواد.
قال: اخلط الألوان كلها في وعاءٍ واحد.. يكونُ السواد.

تعليقات

  1. نريد الرواية كاملة

    مع خـالص الشكر

    ردحذف
  2. لو تقصد ورقي .. تعدي عليك أكيد فور انتهائي منها :) :)

    ردحذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات