طرق الكتابة الجانبية



     1- باختصار كنت أسير في شوارع وسط البلد كعادتي، كانت فكرة ما تعبث في رأسي فانفتحت طريقًا مشيتُ به بعض خطوات إلى أن فرضت فكرة أخرى نفسها على عقلي، دعتها إحدى كلمات الدرب الأول للحضور، انفتحت هذه الكلمة إذن كوصلة تشعبية على طريقٍ جانبي. 


     في تلك اللحظة عادة ما نرتبك ونقف بين الطريق الجديد المغري بالعبور فيه، والطريق الأول الذي لم نكمله بعد. الاختيار مربك لأن الأفكار في تلك اللحظة طيارة لم تثبتها الكتابة، ولا الألفة، وعادةً ما يصبح هذا التشتت حينها هو الأساس وننسى الطريقين معًا، ونُترك معزولين متضايقين مرتبكين دون أن ندرك تمامًا أحيانًا سر هذا التشتت.

     2- في هذه المرة لم يحدث هذا كالمعتاد حدث تغيير طفيف على التركيبة؛ فبدلا من الغرق في التشتت انفتح أمامي هذا التشتت نفسه كدربٍ ثالث فدخلت فيه ناسيًا إلى حين كلا الطريقين، ربما ساعدني على ذلك أنني كنت أفكر أساسًا في قراءة النصوص فانفتحت حالة التشتت هذه كفكرة ثرية تساعدني على صياغة بعض الأفكار التي لم أكن قد صغتها بطريقة ترضيني .

     3- تخيل نفس هذه الحالة تحدث لك أثناء كتابة نص من النصوص الأدبية، يحدث أحيانًا أن يتم شطب هذه الجملة تمامًا، أو تأجيلها إلى نص آخر متوخين في هذه الحالة طريق الاتساق العقلي، ومتتبعين الدرب المرسوم والمعبد مسبقًا بعناية وعقلانية. لكن هذا ليس الطريق الأفضل دائمًا، بعض الكتاب يعامل هذه الحالة بأسلوب مختلف ينم عن فهم معين للعقل وتشابكه، وبدلا من استبعاد الجملة بشكل آلي يتم التفكير في الرابط أو السر الذي جاء بهذه الجملة وسط هذا السياق تحديدًا – ذلك السياق الذي رأى تفكيره للوهلة الأولى أنه ليس وطنًا لها بشكلٍ من الأشكال. هنا قد تتسع من خلال هذا التفكير، رؤيته للفكرة الأصلية وقد ينتج عن هذا ثراء للعمل قد لا يدركه كاتبه نفسه بشكلٍ كامل.

     4- حالة التشتت التي لا نرى في الغالب سوى جانبها السلبي دون أن نرى ما فيها من ثراء، قد تُحدِثُ عند نقلها على الورق اتساعًا في رؤية النص، وقد تنقل أمام القارئ فضاءً من القراءات المختلفة، التي تنفتح أمامه عند الدخول إلى هذا النص الذي يوحي له بالنظام والفوضى معًا، النظام ينتج من إحساس بجمالية ما في المكتوب والفهم لبعض المفاتيح والأفكار، والفوضى تنتج من عدم قدرته على الإلمام بكل ما في النص من القراءة الأولى، وأحيانًا ولا من العاشرة، لكنه لسببٍ ما قد يظل متمسكًا بهذا النص المغلق والمفتوح في الوقت نفسه كنص أثير محبب.

     5- في القرن الماضي أدرك الإنسان سقوط رؤية ما تمجد العقل الواعي، وتراه كطريق وحيد للمعرفة، يلغي ما دونه كخرافات أو أشكال أقل من المعرفة، قبل ذلك كان الأدب قد بدأ يتأثر في أوقات كثيرة بهذه الرؤية، رؤية تعلي من النظر إلى العمل الأدبي كنص مغلق به رسالة محددة ينقلها الكاتب إلى قراءه، هذه الرؤية تنظر إلى الكاتب بالنسبة لنصه كإله كلي المعرفة، يعرف ما يقصده عمله بشكل واضح ومكتمل. 

     سقوط هذه الرؤية لدى الكتاب والقراء معًا أدى إلى كتابة نصوص بها من التشابك والتدفق ما يجعل كاتبها نفسه يقف منها بعد الانتهاء من الكتابة كقارئٍ واعٍ – للنص ولذاته المكتوبة ربما، قد يعيد قراءته مرات عدة بأشكال مختلفة، إن كان النص ثريًا بما يكفي، وبالتالي قد يكتشف في قراءة أحد القراء الأكثر بعدًا منه عن النص رؤية قد تكون أثرى وأكثر تنوعًا.

     6- هذا النص الذي يحمل في سياقه التشتت والنظام معًا، الذي يبحث دائمًا عن قارئٍ يعيد تنظيمه بأسلوبه، هو نصٌ ثريٌ بالنسبة للبعض ممن يحبون اللعب مع النصوص، لكن ما الذي يفرق هذا النص عن نصٍ آخر لا يحمل سوى الفوضى الخالصة أو البعثرة الصرفة؟ أظن أن وضع فواصل ثابتة يتم من خلالها بشكل آلي التعرف على الفارق غير ممكن، وإنما يظل ترسيم الحدود دائمًا هو عملية تتم داخل عقل القارئ نفسه. 


أحمد الحضري 
28 نوفمبر 2010

تعليقات

  1. لا أدري لماذا تحرمنا من مقالات كهذه
    أبخيل أنت؟
    ط

    ردحذف
  2. فعلا يا طارق أحاول هذه الأيام الكتابة عن الكتابة كلما طرأت لي فكرة تستحق .. أتمنى أن أفلح في ذلك بشكل لائق ... شكراا لك ولمرورك المختلف دائمًا

    ردحذف
  3. Gracias por lo bueno

    ردحذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

ألبرت أينشتاين وميليفا ماريتش: قصة حب (اقتباس)

قصائد من الشعر الأفريقي المعاصر