مقاطع من كتاب "الجرذ: التاريخ الطبيعي والثقافي"


By: Banksy




يكمن السبب الأخير في قدرة الجرذ على اجتياح مكنونات الإنسان النفسية في حقيقة مفادها: أن الجرذ يعتبر غالبًا توأمًا للإنسان، حيث يحقق النجاح في جوانب الأنشطة البشرية التي تعتبر بحد ذاتها ملأى بالمشاكل، مثل الحرب والإمبريالية. ففي كتاب "الجرذان والقمل والتاريخ" يصف المؤلف هانز زنس الجرذ على أنه ظل الإنسان، فهو يتقصى بصورة طفيلية آثار الخراب والدمار اللذين يتسبب بهما الغزو الإمبريالي والحرب. ويربط منطق زنس بصورة وثيقة الجرذ بالإنسان إلى درجة أن فصيلتي الجرذ والإنسان تتشابكان مع بعضهما باستمرار. فهما كتوأمين شريرين خاليين من الصفات التعويضية، وبحيث يجعل الجشع والطمع والقدرات التكاثرية وسهولة التكيف منهما قادرين على التهام العالم.

"إن الإنسان والجرذ هما الحيوانان المفترسان الأكثر نجاحًا حتى الآن، فهما قادران على تدمير أنواع الحياة الأخرى، وليس لأي منهما فائدة متناهية الصغر للفصائل الحية الأخرى ... وقد انتشر هذا الإثنان تدريجيًا في الأرض، بصورة متوازية مع بعضهما، ودون أن يملك أيٌّ منهما القدرة على تدمير الآخر، على الرغم من عدوانيتهما التي لا تنتهي ... وعلى عكس فصائل الكائنات الحية الأخرى فقد قام كلُّ واحدٌ منهما بشن الحروب على جنسه"
 

إن فكرة التشابه المطلق بين الإنسان والجرذ شائعة للغاية، فقد ذكر كاتب معاصر أن "الجرذان تعيش في عالم موازٍ لعالم النسان وتحيا على البقايا القذرة للمجتمع البشري ... فأنا أنظر إلى الجرذان كما لو كانت فصائلها صورة طبق الأصل عن الإنسان، معكوسة ولكنها مشابهة"
 
*** *** ***

By: Banksy

وهناك المزيد من القصص المتطرفة عن الجرذ كعنصر مقدس، ومنها القصة المعروفة للمطران هاتو الذي كان يكدس الحبوب خلال المجاعات ويحرق الناس الجوعى في إحدى الحظائر. وقد طاردته الجرذان والتهمته. كما أن هناك عددًا من الأساطير الأخرى عن مطارنة التهمتهم الجرذان، ومنهم ويلدروف مطران ستراسبورغ عام 997 لأنه اضهد أحد الأديرة . وهناك قصة ساحرة أخرى في القرن السادس عشر عن الملك بوبييل الذي دس السم لأقاربه في مأدبه ليرسخ عرشه، فقد خرجت الجرذان من جثث عمومته وأكلت الطاغية وزوجته وأولاده. ويرى بارينغ-جولد أن بعضًا من تلك الحكايا تمتد جذورها إلى الأضاحي البشرية التي كانت تقدم وثنيًا في أزمنة المجاعات.
 *** *** ***

وفي قصيدة شعبية ساخرة كتبت عام 1736 بعنوان "اغتصاب الفخ"، يلتهم جرذ الكتب في غرفة عالم. وتقول "ذلك الجرذ سيلتهم من المعاني في ساعة أكثر مما أستطيع أن أكتب في عشرين ساعة. وفيما يقوم الجرذ بإتلاف مكتبة العالم يصاب العالم بالخبل: "يا لحزن الوحي الذي يلهمني الشعر، فالجرذ يأكل بحرية مطلقة بعض الكتب المدرسية المقدسة، وبالنسبة للحلوى – فهو يلتهم القصائد". إن التهام كل تلك المعرفة تجعل الجرذ ينتصر على العالم بذكائه: وعندما ينصب له فخًا يجره الجرذ بعيدًا ببساطة. 
 
*** *** ***

قدم العالم سانجيف تالوار برنامجًا في نيويورك يتم فيه التحكم بالجرذان عبر إلكترودات مزروعة في أدمغتها. ويقوم جهاز استقبال يحمله الجرذ بتلقي تعليمات التحكم من جهاز كمبيوتر. ويكون أحد تلك الإلكترودات مزروعًا في جزء الدماغ المسؤول عن الشعور بالمكافآت. بينما اثنان آخران مزروعان في الأجزاء التي تتلقى تحريضات من الشاربين الأيمن والأيسر. وقد وُضعت الجرذان في متاهات وكذلك في بيئات مفتوحة، [...]. وحيث أن الجرذ يتلقى الإحساس بالمكافأة عبر محرض مباشر مربوط بالدماغ. عوضًا عن الاستجابة لمؤثرات أخرى، فقد وجد أن هذه الطريقة تتميز بالكفاءة العالية للتعلم. ومن المتصور أن يشمل مستقبل هذه التقنية نماذج متزايدة التعقيد من الجرذان والآلات. "وقد يكون أيضًا من الممكن زيادة "عرض الموجة" التي تنقل المعلومات القابلة للتعديل عبر تحريض متعدد لمواقع دماغية، ومن ثم زيادة تنوع ردود الفعل التي يمكن الحصول عليها ... فالجرذ الموجه يمكن تطويره ليصبح "روبوت" يوفر عدة مزايا مقارنة بالروبوت الآلي الحالي المتحرك. وعلاوة على ذلك، فإن القدرة على تلقي أنشطة دماغية إحساسية عن بعد وتفسيرها بدقة يمكن أن يسمح لجرذ موجه بأن يقوم بعمل كل من الروبوت المتحرك والمستشعر البيولوجي معًا. 
  
*** *** ***

إن أحدث تطور في علم الجرذان، وقت تأليف الكتاب هو نشر 90% من خريطة Rattus Norvegicus [الجينية] في نهاية شهر مارس 2004. وقد أظهرت هذه الخريطة أن الجرذان كانت تتطور بخطى أسرع من البشر بحوالي ثلاث مرات، وأنها طورت بصورة فائقة حاسة الشم (تمتلك ما يقدر ب 2070 من الجينات المستقبلة للرائحة، أي أكثر مما لدى الفئران بمقدار الثلث)، إضافة لقدرة أكثر فاعلية للتعامل مع السموم في كبدها. إلا أن التقدم الذي سبق إحرازه في مجال جينات الفأر جعل من هذا الحيوان الأخير الحيوان المفضل للأبحاث. وبدءًا من أواخر ثمانينات القرن الماضي، فإن تكنولوجيا الجينات الفائقة والتطورات اللاحقة التي نجحت في توليد فئران انتزعت منها جينة واحدة فقط ووفرت إمكانية إعادة إدخال الجينات إليها، جعلت من الفأر حيوانًا أكثر أهمية. وقد كان أصعب بكثير، وحتى وقت قريب جدًا عزل الخلايا الجذعية واستنساخ الجرذان. وفي عام 1990 تم في ألمانيا توليد أول جرذ يحمل جينًا لا يعود له، وهو جين يسبب ارتفاع ضغط الدم، وبعدها تم في عام 2003 استنساخ أول الجرذان، وهو الجرذ رالف. إن كلا من القوارض والبشر قريبان من بعضها وراثيًا: ذلك: "أن التشابه الواسع في عدد الجينات وتنظيمها وتتاليها بين القوارض والبشر أمر يبعث على الاطمئنان، مثل حقيقة أن ما يقاب 90% من جينات الجرذ لها تماثلات في كل من البشر والفئران". ذلك أن الجرذ يمتلك 2.75 بليون زوج من الحموض الأمينية الأساسية، في حين يمتلك الفأر 2.6 بليون زوج حمض أميني، أما الإنسان فيمتلك 2.9 بليون.

____________
مقاطع من كتاب:
الجرذ: التاريخ الطبيعي والثقافي
جوناثان بيرت
ترجمة: معن أبو الحسن
مراجعة: د. أحمد خريس
كلمة، أبو ظبي
2010

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

ألبرت أينشتاين وميليفا ماريتش: قصة حب (اقتباس)

قصائد من الشعر الأفريقي المعاصر