الاستعارة والتفكير

غلاف الترجمة العربية لكتاب الاستعارة في الخطاب


بقلم: إيلينا سيمينو
ترجمة: عماد عبد اللطيف، خالد توفيق


دعوني أبدأ بالتأمل في عنوان الكتاب "الاستعارة في الخطاب". أقصد بالاستعارة الظاهرة التي نتكلم وربما نفكر من خلالها في شيء ما بمفردات شيء آخر. ففي تعبير "الحرب على المخدرات"، على سبيل المثال، يتم التكلم عن محاولة تقليص عدد المتعاطين للمخدرات بمفردات الحرب. وربما يعكس ذلك ويعزز طريقة معينة في التفكير حول صعوبات متشابكة (على وجه التحديد الأفعال والسياسات المرتبطة بإساءة استعمال المخدرات) بمفردات العدوان العسكري والعمل العسكري. وسوف أقدم تعريفًا أكثر دقة للاستعارة فيما بعد.

أقصد بمصطح "الخطاب"، كما تم استخدامه في العنوان، استخدامًا طبيعيًا متتابعًا للغة: أي أمثلة واثعية من الكتابة أو الكلام تم إنتاجها وتأويلها في ظروف معينة ولغايات معينة. 
 
*** *** ***

ثمة وصف أرسطي شهير يصف "امتلاك زمام الاستعارة" بأنه علامة على العبقرية.

*** *** ***


وظائف الاستعارة في الخطاب

لقد ذكرت بالفعل أكثر وظائف الاستعارة عمومية في اللغة والفكر، وهي على وجه التحديد إمكانية الكلام والتفكير في شيء ما بمفردات شيء آخر. لقد زُعم في إطار نظرية الاستعارة المفهومية بشكل أكثر تحديدًا أن الاستعارة تمكننا من التفكير والكلام عن خبرات مجردة و/أو معقدة و/أو ذاتية و/أو غائمة بمفردات خبرات محسوسة و/أو بسيطة و/أو مادية و/أو واضحة، ترتبط غالبًا بأجسادنا الشخصية. وهذا يجعل الاستعارة ظاهرة لغوية ومعرفية حاسمة، ويفسر قدر الاهتمام التي تلقته عبر القرون الماضية وفي السنوات الأخيرة. وفي الواقع فقد اقتُرح أن الاستعارة هي جزء مهم من القدرة على الإبداع والابتكار التي تؤدي إلى تطوير البشرية الحديثة على مدارج الارتقاء.

مع ذلك يحتاج المرء – لكي يفسر استخدام الاستعارة في الخطاب- أن يدرس عددًا من الوظائف الأكثر تحديدًا التي يمكن أن تقوم بها الاستعارة في التواصل. ينطبق هذا بالخصوص عندما تُختار التعبيرات الاستعارية من بين بدائل أخرى عديدة ممكنة، أو حين تُتضمن أيضًا نماذج نصية و إبداعية. على سبيل المثال، فإن الاستعمال الزماني لحروف الجر المكانية مثل "في"، أو "على" (مثل "في عام 1945 in 1945”، و "في ذلك اليوم on that day”) ليس فحسب شديد التقليدية، بل هو تقريبًا إجباري نظرًا لأنه يتم بناء الزمن في اللغة الإنجليزية (وفي لغات أخرى عديدة)، نسقيًا بمفردات المكان.  
[…]
 
بصياغة أخرى فإن النظريات العامة للاستعارة مثل نظرية الاستعارة المفهومية تدرس أسئلة عامة من قبيل: لماذا تتكرر نماذج استعارية معينة في لغة أو لغات معينة؟ هذا النوع من الأسئلة يجاب عنه بالإحالة إلى دور الخبرات الجسدية المادية المحسوسة -مثل المكان– في تأسيس خبرات مجردة ومعقدة وغائمة مثل الزمن. لقد تنامى كذلك وضع دور الثقافة في الحسبان. مع ذلك فإن دراسة الاستعارة في الخطاب تتضمن كذلك أسئلة أكثر تحديدًا مثل: لماذا تحدث نماذج واختيارات استعارية بعينها في نصوص وأنواع خطابات بعينها؟ هذا النوع من الأسئلة يجاب عنه بالإحالة إلى دور المخاطِبين والمخاطَبين وهوياتهم وأهدافهم، والإدراك العام لعلاقاتهم المتبادلة، والسياق اللغوي والخارجي وثيق الصلة (ويشمل الأبعاد الموقفية والاجتماعية والسياسية والتاريخية والثقافية). لهذين النمطين من الأسئلة تجليات مختلفة لكنها كذلك مترابطة. […]  

السلسلة الرئيسية من وظائف الاستعارة في الخطاب ترتبط بتمثيل represntation (أبعاد معينة من) الواقع. فنظرًا لأن الاستعارة تنطوي على إنشاء شيء بمفردات شيء آخر، فإن اختيار "شيء آخر" (أو مجال مصدر) يؤثر في كيفية تمثيل "الشيء" (أو المجال المستهدف). على نحو أكثر تحديدًا، فإن الاستعارات يمكن أن تستخدم للإقناع بصياغة مفاهيمية جديدة للواقع وتبريرها وتقييمها وشرحها والتنظير لها وتقديم صياغة مفهومية جديدة لها، وهلم جرا. على سبيل المثال فإن المتكلمين الثلاثة الذين أقتبس من كلامهم في مقال الدول الثماني يستخدمون استعارات متباينة ليقدموا تمثيلات متباينة لنفس الحدث، تهدف أساسًا إلى إقناع آخرين بتبني نفس وجهات النظر. يمكن أن ترتبط هذه الاستخدامات التمثيلية للاستعارة بالوظيفة الفكرية ideational للغة عند مايكل هاليداي، التي تتعامل مع دور اللغة في فهم الواقع وبنائه. السلسلة الأخرى من وظائف الاستعارة في الخطاب يمكن على نحو مشابه أن ترتبط بالوظيفتين الأخريين التين اقترحهما هاليداي للغة؛ أي الوظيفة بين-الشخصية interpersonal، والنصية textual. وهما تتعلقان تباعًا بإنشاء العلاقات الاجتماعية والشخصية في التفاعل، وبإنشاء النصوص بوصفها وحدات متماسكة من الاستعمال اللغوي.

يمكن أن تستغل الاستعارة في إنشاء العلاقات بين الشخصية والتفاوض حولها، على سبيل المثال، عندما تستخدم للتعبير عن اتجاهات ومشاعر، وتسلية أو اندماج، أو تعزز الحميمية، أو تنقل الفكاهة، أو تحافظ على الوجه الإيجابي للآخرين أو تهاجمه، أو تمكن من الانتقال من موضوع إلى موضوع آخر أثناء التفاعل وهلم جرّا.  
[…]
يمكن أن تسهم الاستعارة كذلك في البناء الداخلي لنص ما وعلاقاته النصية؛ فهي يمكن أن تستخدم لتقديم ملخصات أو جذب انتباه المخاطبين إلى أجزاء معينة من النص، وهلم جرا.

*** *** ***

الاستعارة والأيديولوجيا

لقد اقترحت بالفعل في أقسام سابقة أن الاستعارات نادرًا ما تكون محايدة: فإنشاء شيء بمفردات شيء آخر تنتج عنه وجهة نظر معينة حول "الشيء" موضوع التساؤل، وينطوي غالبًا على اتجاهات وتقييمات محددة. وبمفردات نظرية الاستعارات المفهومية، فإن الاستعارات "تُبرز" بعض أبعاد المجال المستهدف وتخفي أخرى. فاستعارة "الحجاج حرب"، على سبيل المثال، تبرز الأبعاد التنافسية والعدائية والصراعية للحجج، وتخفي أبعادها التعاونية والبناءة. ربما يؤثر هذا ليس فحسب على طرق تكلمنا وتفكيرنا في الحجج، لكن يحتمل كذلك أن يؤثر على السبيل التي نتصرف بواسطتها أثناء الحجاج. هل يعني هذا، بناء على ذلك، أننا مقيدون ومعصوبو الأعين تمامًا من خلال الاستعارات التي نستخدمها بشكل تقليدي؟ إجابتي على هذا السؤال هي: بشكل عام، لا، لكن ذلك قد يكون صحيحًا في بعض الحالات.

فمن جانب يمكننا أن نتغلب على تشوهات الاستعارات الفردية وقيودها – إلى حد ما على الأقل- من خلال استغلال استعارات تقليدية بديلة لنفس المجال المستهدف، أو من خلال ابتكار استعارات جديدة، ومن ثم ابتكار سبل جديدة لإضفاء معنى على خبرات معينة. يلفت لاكوف وجونسون، على سبيل المثال، النظر إلى أن الحجج في اللغة الإنجليزية يتم كذلك بناؤها تقليديًا بمفردات مجالات مصدر أخرى بخلاف الحرب (هي تحديدًا: الرحلات، الحاويات، الأبنية)، ويستكشفان تطبيقات لصياغة مفهومية افتراضية بديلة للحجج بمفردات الرقص.

مع ذلك فمن ناحية أخرى، عندما تصبح استخدامات استعارية معينة هي الطريقة المهيمنة في الكلام عن بعد معين من أبعاد الواقع في خطاب معين، فإنه قد يكون من الصعوبة بمكان إدراكها وتحديها، نظرًا لأنها تأتي لتمثل وجة النظر "الشائعة" و"الطبيعية" للأشياء. في مثل هذه الحالات، يمكن رؤية الاستعارات المفهومية التقليدية بوصفها جزءًا مهمًا من سلسلة المعتقدات المشتركة أو "الإيديولوجيا" التي تسم جماعة اجتماعية معينة:
الأيديولوجيا، سواء في معانيها المحايدة أو "المشحونة"، هي نسق من المعتقدات والقيم يتأسس على سلسلة من النماذج المعرفية؛ أي التمثيلات الذهنية – وهي لغوية في جزء منها وغير لغوية في جزء آخر- للظواهر الحالية وتأويلاتها في الثقافة والمجتمع.
على نحو مشابه ينظر فان دايك إلى الأيديولوجيا من زاوية معرفية – اجتماعية بوصفها "أساس التمثيلات الاجتماعية التي يتقاسمها أعضاء جماعة ما"، ويعرف "التمثيلات الاجتماعية" بوصفها "تجمعات منظمة من المعتقدات التي يتم تقاسمها اجتماعيًا"، وتشمل: "مخططات، وسيناريوهات، وأطرًا، واتجاهات، وآراء، وهلم جرا". ومن منظور نظرية الاستعارات المفهومية، فإن العديد من تلك التمثيلات الذهنية المتقاسمة يتم بناؤها، بشكل جزئي على الأقل عبر استعارات مفهومية تقليدية. 

مع ذلك فإن المنظور الإيديولوجي – كما يشير فرانك وبوتز- لا يحدده فحسب اختيار استعارة مفهومية معينة "لكن تحدده أيضًا، وبشكل حاسم بالقدر نفسه، التعبيرات اللغوية المتنوعة المجهزة للاستعارة المفهومية الكامنة". بالإضافة إلى ذلك فإن التطبيقات الإيديولوجية لنماذج معينة من التعبيرات الاستعارية تتنوع استنادًا إلى كيفية استخدام تلك الأنماط تقليديًا عبر نصوص وأنواع. ويقدم كاميرون تمييزًا مهمًا بين ثلاثة أنماط من "نسقية systematicity التعبيرات الاستعارية. "النسقية المحلية" تنطبق عندما تكون استعارة أو استعارات لغوية معينة مقصورة على نص واحد أو حدث خطابي واحد. […]  

تتحقق نسقية "الخطاب" عندما تستخدم استعارات لغوية معينة داخل "جماعات خطاب discourse communities معينة (مثل مدرسي اللغة، أو أعضاء حركة سياسية معينة)؛ وبالمفردات المستخدمة في هذا الفصل فإن نسقية الخطاب تتحقق أيضًا عندما تسم استخدامات معينة للاستعارات أنواعًا أو خطابات معينة، مثل تقارير الأخبار الرياضية أو الخطاب المتصل بالشرق الأوسط. تتحقق النسقية "الكونية" عندما تحدث استخدامات معينة للاستعارة عبر عديد من الأنواع والخطابات، كما هو الحال في الاستعارات المكانية للزمن. وفي حين أن كل استخدامات الاستعارة ربما يكون لها تطبيقات إيديولوجية، فإن تلك التي تعد نسقية خطابيًا هي تحديدًا ذات مغزى، نظرًا لأنها يمكن أن ينظر لها بوصفها انعكاسًا للمعتقدات والمسلمات التي يتقاسمها أعضاء جماعات معينة.

لقد بدأ البعد الإيديولوجي للأنماط التقليدية للاستعارة في خطابات معينة يلقى اهتمامًا ملحوظًا. فقد أوضح كولر (2004)، على سبيل المثال، كيف أن خطاب إدارة الأعمال المعاصر يتسم بنماذج استعارية نسقية مشتقة من سلسلة صغيرة من حقول المصدر المتمركزة حول الحرب. وتحاجج بأن هذا يعكس إيديولوجيا جنسية يبدو أنه يتقاسمها الصحفيون وجمهورهم، هي بالتحديد رؤية أنشطة إدارة الأعمال بوصفها تنافسية وعدائية وعدوانية، وتتضمن ميولا نحو تهميش المرأة أو استبعادها. لقد ناقش جواتلي (2002) عدم التناسق والمحدودية في الاستعارات التي تسم الخطاب التعليمي الرسمي في هونج كونج، في حين أن عددًا من البحوث درست الدور المركزي الذي تلعبه استعارات تقليدية في الخطابات المحيطة بالهجرة واللجوء السياسي في سياقات تاريخية وثقافية مختلفة. في بعض الحالات، اقترح علماء الاستعارة بحيوية استعارات بديلة جديدة، توفر من وجهة نظرهم مداخل أكثر عدالة ومساواة وإنتاجية للمشكلات والأنشطة. مع ذلك فإن دراسة الاستعارة بشكل أكثر عمومية يمكن أن تزيد من الوعي بالدور الذي تلعبه في طرقنا التقليدية في الكلام والتفكير، وبذا يكون الأفراد أكثر قدرة على ملاحظة التعبيرات الاستعارية وعمليات الصياغة المفهومية، ويكونون قادرين على التفكير بشكل نقدي في صلاحيتها. 

مقاطع من:
الاستعارة في الخطاب
إيلينا سيمينو
ترجمة: عماد عبد اللطيف، خالد توفيق

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

فن الكم = Quantum art

الغراب في التراث الشعبي: مقتبسات