كيف يرى نجيب محفوظ رواياته على الشاشة؟ : حوار قديم


عبد الرحمن أبو عوف

الحوار منقول عن مجلة الدوحة في إصدارها القديم عدد نوفمبر 1977


لستُ محتاجًا أن أعيدَ تقرير مدى التشوهات والتسطيح الذي تعرضت له روايات نجيب محفوظ في السينما إخراجًا وسيناريو. لقد كانت إسهامات نجيب محفوظ في الرواية المصرية العربية لها تفردها، لأنها تتبعت وقدمت بالصورة والرمز بانوراما الحياة المصرية. ولقد سمح إغراء الموضوعات المتعددة للسينما المصرية أن تقدمها بشغف غير أن المأساه تكمن في أن تلك الروايات قدمت بوجهات نظر تجارية!


لقد تفاوتت مهارات كل المخرجين من "زقاق المدق" حتى "الشحات" كذلك اجتهد كتاب السيناريو، غير أن الأفلام جميعًا، كانت تغيراتها قاصرة لقيمة الرؤية الإبداعية التي قدمتها هذه الروايات، ولم ينقذ معظمها إلا أداء بعض الممثلين الموهوبين لذلك كان على نجيب محفوظ أن يتحدث عن أعماله، غير أن الكاتب في هذا الحديث، كان يبدو لي في موقف غريب غير مفهوم، حتى أني احترت في صمته وإجاباته التي قدمها!

أرجو أولا إعطائي انطباعًا عن أعمالكم التي قدمت في السينما ..      
كانت نتيجة تحويل أعمالي إلى أفلام أنها عرفت بكتب لا يطلع عليها عادة إلا الآلاف فعرفتها الملايين من شعبنا، وهذا في ذاته مكسب أدبي لا يقدر بمال، أما أنها قدمت في صورة دون المثل الأعلى المطلوب عند التحويل، فهذا أمر يرجع إلى نقطتين أو إلى نقطة واحدة لا يجوز إغفالها، وهي مسؤولية السينما المصرية، في العهد الذي تحولت فيه هذه الروايات، فإن السينما المصرية مهما بلغت لا تستطيع أن تقدم مستوى تعجز عنه، لذلك فتقديمها كان معقولًا وأدى الغرض منه!

هذه الإجابة غير محددة بل تتهرب بلغة دبلوماسية ..
وغضب نجيب محفوظ برغم ضحكته المشهورة قائلا: هل تريدني أن أقول أن فاقد الشيء لا يعطيه، كيف ينتظر من مستوى فكري وفني هابط لدى عناصر العمل السينمائي أن يكون على مستوى الأعمال الأدبية؟ غير أني أتساءل بدوري: هل تقديمها بهذه الصورة أفضل أم عدم تقديمها؟ ..
أعتقد أن تقديمها للناس أحسن، ثم أن النقاد هاجموا هذه الأفلام كأنها ظاهرة منفصلة عن انتاج السينما المصرية بصفة عامة. قل لي كم فيلمًا مصريًا أرضاهم حتى يطالبوا أفلامي بدرجة الإرضاء؟ إن هناك كما تعلم عددًا محدودًا جدًا من الأفلام المصرية التي تعتبر كاملة فنيا وفكريًا .. أنت مثلًا لا تذكر إلا فيلم المومياء لشادي عبد السلام .

لكني مقتنع بعد قراءة ومشاهدة أعمالكم ككل أن كثير من المخرجين وكتاب السيناريو تعمدوا استغلال الإثارة وطبيعة المكان حيث دفء الحياة الشعبية، بجانب الإخفاق الضحل في فهم بناء الشخصيات الروائية عندك، باختصار ضاعت الرؤية الفكرية ، والدلالة التي تبثها وتقدمها الرواية على أيدي هؤلاء بدرجات متفاوتة.
إذا كانوا قد اعتنوا ببعض الجوانب دون البعض، مثل الجنس وغيره من المثيرات، فقد تم ذلك جريًا وراء متطلبات الفيلم التجارية. ونحن قبل أن نلوم السينما على ذلك، يجب أن نذكر أن من الأدباء من يجرون وراء النجاح المعتمد على الإثارة، مع أن الأدب ليس فنًا جماهيريًا، أفلا تعذر بعد ذلك السينمائيين؟ 

اسمح لي أن أقول لك أن هذه الإجابة تبريرية، ثم ما رأيك في تشويه الدلالة السياسية أو الفكرية للفيلم، مثل فيلم ميرامار؟
وصمت نجيب محفوظ ثم قال: لا أستطيع أن أتحدث عن تفصيلات في كثير من أفلامي غير أن إجاباتي هي البداية، أعتقد أنها تعفيني من مناقشة هذه المشكلة.. ومرة أخرى أقول.. لا تتوقع من مستوى هابط أن يهتم بما نقوله عن الدلالة الفكرية أو السياسية.

في الواقع أنا أثير هذه المشكلة معك لأن جيلا جديدًا من السينمائييين المثقفين أقرب إلى مستوى أعمالك ولم يأخذوا الفرصة، لحصار السينما التجارية لهم؟
بالنسبة للجيل السينمائي الجديد لم يكن قد أثبت وجوده بعد في المرحلة الأولى من إخراج أفلامي، وبعد ذلك .. فأنا أرحب به كل الترحيب، وقد أعطيت لأحد الشبان الجدد من خريجي معهد السينما، قصة "تحقيق" دون مقابل.
وأخرج نجيب محفوظ مفكرة محاولا تذكر اسم هذا الشاب.

وعدت أسأله: ولكن ما رأيك في إخراج مدكور ثابت وهو واحد من الشبان الجدد لأحد قصصك القصيرة الأخيرة؟
أعتقد أن محاولة مدكور ثابت لها قسمان: تعبير وإيصال، التعبير الفني غاية في الجمال، أما الإيصال فمعدوم، فالأداء والتكتيك عنده بعيد عن الناس: الجمهور العادي. إن التعبير الفني وحده أسهل من التعبير مع الإيصال. 

ما رأيك إذن في مستوى تقديم بعض قصصك في التليفزيون؟
الأعمال التي اشترك فيها التلفزيون مع السينما، تتفوق من الناحية الفنية لأنه لم يقع تحت سيطرة النجاح والفشل. نعود إلى آخر رواية مثل الشحات. إن الجمهور يخرج نتيجة سلبيات الإخراج والسيناريو، وهو غير مدرك لأزمة عمر حمزاوي.

وصمت مرة أخرى نجيب محفوظ وقلت له : إن كثيرًا من الشباب المثقف في العالم يزور مصر وهو لم تتح له فرصة قراءة أعمالك بعد أن يسمع عن مكانتك كروائي مصري كبير، وتلك هي المشكلة، لأنه يقع في بلبلة لم تصنعها أنت، بل السينما التجارية؟
وهنا أخرج نجيب محفوظ خطابًا من فتاة فرنسية شاهدت فيلم الشحات وعبرت فيه عن ظنها أن الرواية وبرغم عدم قراءتها لها لم تكن الكاميرا والوسيلة السينمائية في مستواها واعتبر ذلك ردًا بليغًا على سؤالي. وقد حاولت أن انتزع منه مقارنة لدرجات التوفيق في إخراج أعماله، فتهرب من التفصيلات وذكر بعض الروايات مثل "بداية ونهاية"، و"السمان والخريف".

 وأخيرًا سألته: أرجو أن تجيب بصراحة، فهناك رأي عام وسط الكتاب والسينمائيين الجدد بأن أعمالك سيعاد إخراجها من جديد في يومٍ ما..

وابتسم في ثقة وأمل، وحدق بعينيه إلى بعيد قائلًا: أعتقد أن هذه الروايات سيعاد إخراجها، ولكن بعد مرور فترة طويلة وستقدم لجيل جديد وربما لا أحضر هذه الفرصة.
قلت: أرجو أن تحضرها...أيًا كان الأمر فإن نجيب محفوظ كان متحفظًا طبعًا في هذه الإجابات غير أن جملة ظروف صحية ونفسية لا يعلمها إلا من يصاحبه عن قرب تجعله يدرك أنه قليل المشاهدة للسينما، وحتى أفلامه لا يتحمس كثيرًا لرؤيتها. ثم أن أوضاع التناقضات في إنتاج وصراعات العمل في السنما المصرية جعلته يزهد في الحديث عن مقارنة أعماله بالأفلام، ولقد خسر الجمهور العريض، بل خسرت السينما المصرية نفسها من عدم صعودها إلى مستوى الإبداع والفكر لكاتب روائي مصري كنجيب محفوظ، شكلت أعماله ككل ملحمة زمن روائي يوازي وينتقد ويتخطى هموم الواقع المصري في ربع قرن، حيث رصدت عدسته الروائية تشكلات وتطورات المجتمع، وعرت بكل شجاعة وعمق السلبيات والأزمات، ورحلة صعودها وانهياراتها وكانت الكاميرا والمنجزات السينمائية ستجد خصوبة في نقل وتجسيد هذا العالم الروائي غير أن التجارة والضحالة الفكرية لعدد ممن يتصدى لإخراجها وإعدادها جنى عليها وعلى الجمهور الذي لم يقرأ نجيب محفوظ ولكنه عرفه عن طريق الشاشة. 

عبد الرحمن أبو عوف

تعليقات

  1. بدايه تتابع كل المدونين وتسعد بزيارتكم لها دوما
    اذا كان هناك خاطره او مقال او قصه قصيره وتعتز بها
    فيمكنك ارسالها الى بدايه عن طريق الميل التالى
    egypt.taxi@gmail.com
    ويمكنك متابعتنا من خلال صفحتنا على الفيس
    http://www.facebook.com/beedaya

    ردحذف

إرسال تعليق

أفيدوني بانتقاداتكم وإطراءاتكم، أسعد بجميع الآراء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل العالم حقيقي، أم أنه مجرد وهم أو هلوسة؟

ما هو الفن الطليعي؟ (Avant Garde)

ألبرت أينشتاين وميليفا ماريتش: قصة حب (اقتباس)

قصائد من الشعر الأفريقي المعاصر